النّدوة العلميّة الدّوليّة: "الأنوار الغربيّة ومصادرها الخارجيّة"
فئة: أنشطة سابقة
انتظمت بفضاء المجمع التّونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، بتونس العاصمة، على امتداد يومي الجمعة 15 والسّبت 16 نوفمبر 2019، أشغال النّدوة العلميّة الدّوليّة "الأنوار الغربيّة ومصادرها الخارجيّة"، التي نظّمتها مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة والجمعيّة التّونسيّة للبحوث في الأنوار، والتي تضمّنت خمس جلسات علميّة ساهم فيها أساتذة وباحثون من تونس ومن العالم العربي ومن أوروبا، بمداخلات باللّغتين العربيّة والفرنسيّة.
انطلقت أعمال النّدوة بكلمات افتتاحيّة قدّمها المنظّمون، بداية بكلمة الأستاذ عبد المجيد الشّرفي رئيس المجمع التّونسي للعلوم والآداب والفنون، وقد بيّن فيها أهمّية الموضوع الذي تطرحه النّدوة من حيث إنّه يرسم العلاقات التي أسّست للأنوار الغربيّة مع الكثير من الرّوافد الفكريّة الخارجيّة، واعتبر أنّ هذا الموضوع، رغم أهمّيته، يبدو غير مطروح بما فيه الكفاية، وأكّد أنّ الحضارة العربيّة والإسلاميّة لم تكن بمنأى عن المساهمة في الأنوار الغربيّة من زوايا متعدّدة، قد لا ينتبه لها الرّأي العام الغربي ولا يعترف بها. كما أكّد أنّ القيم التي جاءت بها الأنوار الغربيّة ليست مستمدّة من الفراغ، وإنّما هي متأتّية من القيم الإنسانيّة المتأصّلة في طموح الإنسان إلى السّعادة والحرّية والعدل والمساواة. واعتبر أنّ كرامة الإنسان وحريّته ومسؤوليّته في هذا الكون، إنّما هي قيم جاءت بها الرّسالة المحمّديّة، وإن انحرفت بحكم الممارسة التّاريخيّة عن هذه المبادئ الأساسيّة. وقدّم الأستاذ نادر الحمّامي كلمة رحّب فيها بالضّيوف المساهمين في أعمال النّدوة من تونس ومن الخارج، وبالحضور من متابعين ومهتمّين، واعتبر أنّ النّدوة تعدّ مناسبة لتبادل الأفكار وإثراء النّقاش بين جهات مختلفة، وفي مسائل أحوج ما تكون إلى إعادة النّظر، على اعتبار أنّ من سمات الأفكار أنّها تنبني على التّواصل والتّراكم، وأنّها لا تنطلق لا من فراغ ولا من نقطة الصّفر، وقال إنّ تلك السّمات تنسحب على الأنوار الغربيّة. وقدّمت الأستاذة حليمة ونّادة المنسّقة العلميّة للنّدوة كلمة ثمّنت فيها جهود المنظّمين للنّدوة والمساهمين فيها، وقالت إنّ النّدوة تعتبر لبنة من لبنات التّفكير في المشترك الثّقافي والفكري الذي تتأسّس عليه الحضارة الغربيّة.
انطلقت الجلسة العلميّة الأولى، التي ترأّستها الأستاذة خديجة بن حسين، بمداخلة الأستاذة دونيس براهيمي (فرنسا)، بعنوان: "لم يكن للأنوار الأوروبيّة أن توجد لولا استفادتها من كلّ ما يأتيها من الخارج"، بيّنت فيها أهمّية العناصر الثّقافة الخارجيّة في بناء المفكّرين والفلاسفة في الغرب، وفي فرنسا تحديداً، لأفكارهم وتمثّلاتهم لمعنى الأنوار، واعتبرت أنّ التّلاقح الفكري الذي أحدثه أولئك بين ثقافتهم الأصليّة وبقيّة الرّوافد الأخرى، كان له صدى متميّزاً في نحت مفاهيمهم حول دور العقل وأهمّيته في البناء الحضاري والثّقافي، وقالت إنّ الحضارة الإسلاميّة بالنّسبة إلى فلاسفة الأنوار كانت المحك الذي ساعدهم على الفهم، واهتمّت في هذا السّياق بمثال فولتير، وقالت إنّه وصف الرّسول محمد بأنّه رسول ديانة تتّسم بالحكمة والإنسانيّة، وأنّه كان ينبذ التّعصّب الدّيني وليس الإسلام.
وقدّم الأستاذ حافظ قويعة (تونس)، مداخلة بعنوان "ما تدين به الأنوار للحضارة العربيّة الإسلاميّة"، اهتمّ فيها بما تطرحه أفكار الأنوار الغربيّة اليوم من تساؤلات حول منشئها والمؤثّرات التي حفّت بها، وأدّت إلى تطويرها، واعتبر أنّ الثّقافة الغربيّة لا تقطع الصّلة نفعيّاً، مع الرّوافد الخارجيّة من جهة الاستفادة المتواصلة، ممّا توفّره من قضايا للنّقاش، وأنّها تعبّر عن ذلك بالتّواصل كما تعبّر عنه بالصّدام الفكري والإيديولوجي، وقال إنّ عودة الغرب الآن إلى الأنوار ليست مجرّد استجابة لمقتضيات تعميق المعرفة بمرحلة تاريخيّة معيّنة، وإنما هي نتاج اصطدامه المفاجئ بالإسلام السّياسي الذي أصبح مصدر تهديد فعلي لأمنه.
وأحيلت الكلمة من ثمّ إلى الأستاذ باولو كوانتيلي (إيطاليا)، فقدّم مداخلة بعنوان "استشراق الأنوار من إيطاليا إلى فرنسا: فيكو وديدرو"، اهتمّ فيها بقابليّة فلسفة الأنوار الغربيّة منذ نشأتها للتأثّر بمحيطها الأوروبّي أوّلاً، واعتبر أنّ نشأتها في فرنسا لم تكن تعني انغلاقها على ما دون الفكر الفرنسي، وبيّن مساهمة المفكّرين الإيطاليّين في بعث الكثير من الأنساق الفكريّة المتميّزة التي استغلّها الفلاسفة الفرنسّيون، وانطلقوا منها في رسم مسار متكامل للفكر، خاصّة في ما يهمّ العلاقة بين الدّين والفكر الإنساني، واعتبر أنّ ذلك المسار أخذ من الثّقافة الغربيّة كما أخذ من الثّقافة الشّرقيّة، من ذلك أن الاطّلاع على "حياة محمّد" كان فرصة لمفكّري الأنوار لاكتشاف أفكار مهمّة حول النّموذج الأصلي للدّين الطّبيعي.
واختتم الجلسة الأستاذ مصطفى بن تمسك (تونس)، الذي قدّم مداخلة بعنوان "سرديّات الحداثة الأوروبيّة، زمن استثنائي أم سياق تاريخي؟" اهتمّ فيها بطرح تساؤلات حول العلاقة بين الأنوار والحداثة، أيّهما كان الأسبق، وأيّهما مهّد الطّريق للآخر، وبيّن أنّ الغرب مازال اليوم يصرّ على أنّ الأنوار الغربيّة هي مركز العالم، ويكرّس السّرديّة القديمة التي تقسّم العالم إلى غرب عقلاني وشرق لاهوتي، وأنّ ذلك يؤثّر على مفهوم الحداثة، وينسبه إلى الثّقافة الغربيّة ويقصي عنه بقيّة الثّقافات الأخرى التي لم تكن بمعزل عن المساهمة فيه منذ البداية.
وانطلقت الجلسة العلمية الثّانية، وقد ترأّسها الأستاذ حافظ قويعة، بمداخلة الأستاذة باسكال بالران (فرنسا)، بعنوان "منزلة اللّغة العربيّة لدى كتّاب القرن 18 ميلاديه"، اهتمّت فيها بالمؤثّرات اللّغويّة التي ساهمت في تشكيل أفكار الأنوار، وبيّنت أنّ اللّغة باعتبارها تحمل الأفكار وتعبّر عنها، فهي تساهم في تشكيلها وتؤثّر في طبيعتها؛ أي إنّها تتدخّل في أنساق المعرفة وتوجّه دلالاتها المفهوميّة، وعرّجت على بعض الأمثلة، ومن بينها سياق النّظر الذي ميّز اهتمام فلاسفة الأنوار باللّغة العربيّة، وقالت إنّهم اعتبروا أنّ اللّغة العربيّة خطيرة وجدّية وحركيّة، نظراً لارتباطها بالقرآن وبشخصيّة محمّد.
وقدّم الأستاذ أشرف منصور (مصر)، مداخلة بعنوان "الأصول الرّشديّة للتّنوير الأوروبي" اهتمّ فيها بالسّياق الأيديولوجي الذي يتعلّق بالتّساؤل حول الأنوار الغربيّة في العالم العربي، وقال إنّه يعود إلى تأزّم الأوضاع الفكريّة والثّقافيّة التي مردّها إلى شعور العرب والمسلمين بالفوات الحضاري، وصعود الإسلام السّياسي الذي أدّى إلى تناسي العلامات التنويريّة المضيئة في التّراث الفكري الإسلامي، ومن بينها ابن رشد والرّشديّة، معتبراً أنّ التّنوير الغربي قد أحسن اقتناص اللّحظة الرّشديّة، وأسّس عليها في حين أهملها العرب والمسلمون وتنكّروا لها.
وقدّم بعد ذلك الأستاذ نادر الحمّامي (تونس)، مداخلة بعنوان "أثر ترجمات القرآن في فكر الأنوار" اهتمّ فيها بمصطلح التّنوير، باعتباره يعبّر عن نوع من السّيرورة، معتبراً أنّ الأفكار الكبرى هي دائماً متحرّكة ومتطوّرة وأنّها لا تنتهي، وبالتّالي فلا وجود لما بعدها، كما اعتبر أنّها لا يمكن أن ترتبط بحدود جغرافيّة ضيّقة. ونزّل في هذا الإطار مسألة ترجمات القرآن، والظّروف التّاريخيّة والفكريّة والثّقافيّة التي حفّت بذلك في السّياق الغربي، موضّحاً أنّ اهتمام مفكّري الأنوار بـالإسلام والقرآن ومحمّد كان شكلاً من الاستعارات الأداتيّة لنقد المؤسّسات الكنسيّة في الغرب.
والتأمت الجلسة العلميّة الثّالثة، برئاسة الأستاذ يوسف بن عثمان، واستهلّت بمداخلة قدّمتها الأستاذة لاورا باوليزيني (إيطاليا)، بعنوان "إسلام الأنوار لدى هيجل"، بيّنت فيها اهتمام هيجل بالأشكال الدّينيّة، من حيث تأثيرها في بناء سياقات الوعي الإنساني، ونزّلت في هذا الإطار اهتمام هيجل بالإسلام، على اعتباره قوّة فاعلة تقوم على تجاوز سلبيّة الفكر الشّرقي، وقد اهتمّت في هذا السّياق بمساهمة الثّقافة الإسلاميّة في نقل المعارف الفلسفيّة والطبّية إلى أوروبا بواسطة مراكز ثقافيّة في إسبانيا وإيطاليا.
وقدّمت الأستاذة ألكسندرا سفاويني (اليونان)، في ختام اليوم الأوّل من أعمال النّدوة، مداخلة بعنوان "استعادة التّراث الوطني: الأعمال الأوروبيّة المستوحاة من العصور القديمة والمترجمة إلى اليونانيّة الجديدة من الأنوار الهيلينيّة الحديثة"، استعرضت فيها جانباً ممّا تأسّست عليه الأنوار الغربيّة من أفكار تراثيّة تعود إلى الثّقافة الإغريقيّة القديمة، وبيّنت أن أثر تلك الثّقافة الهيلينيّة يبدو واضحاً من خلال بيان الأنساق المادّية المحفوظة من تراث الأنوار، واستنتجت أهمّية المؤثّرات الذاتيّة التي ساعدت أفكار الأنوار على الانطلاق من مأثور مهمّ شكّل بدايات التّساؤل الإنساني في مواجهة العالم والميتافيزيقا.
وانطلقت الجلسة العلميّة الرّابعة، برئاسة الأستاذ نادر الحمّامي، واستهلّت بمداخلة قدّمتها الأستاذة ناجية الوريمي (تونس)، بعنوان "ابن خلدون والأنوار"، وقد اهتمت فيها بعلاقة ابن خلدون بفكر الأنوار من حيث زوايا النظر التي تجعله مرتبطا بسياقتها كما تشكّلت في الغرب، واعتبرت أنّ ليس هناك حضارة منكفئة على نفسها انطلقت من الصّفر ولم تبن على ما سبقها، وبيّنت أن الإشكال يكمن في الرّوافد التي يمكن اعتبار أنّها أثّرت في الأنوار الغربيّة. وأشارت إلى بعض الدّراسات الغربيّة التي تعتبر أنّ ابن خلدون قد اكتُشف في سياق النّقد العلمي الغربي، وتفسّر عدم شهرته في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة بخوفها من العقل النّقدي، وقد بيّنت حدود الفكر الخلدوني الذي يتوجّه بالأساس إلى الماورائيّات.
وقدّم الأستاذ فرانك سالون (فرنسا)، مداخلة بعنوان "إضافات المعارف والعادات غير الغربية حسب موسوعة الفنون والعلوم والحرف"، اهتمّ فيها بتشكّل مسار الأنوار في المحضن الأوروبي انطلاقا من ألمانيا ثم فرنسا، وبيّن من ثمّ خطأ القول بأنّ الأنوار فرنسيّة المنشأ، رغم أنّ اللّغة الفرنسيّة كان لها دور مهم في صياغتها، معتبراً أنّها ليست فرنسيّة، وإنّما هي أوروبيّة وعالميّة بمعنى أنّها عابرة للقوميّات وللحدود الجغرافيّة. واعتبر أنّ تسمية الأنوار لاحقة على الحركة الثّقافية والفكريّة التي ظهرت في أوروبا ولم تنشأ معها. واهتمّ ببيان المؤثّرات الكبرى التي خضعت لها حركة الأنوار من روافد غير أوروبيّة، وساهمت في تشكّلها ونشأتها وتواصلها.
وقدّم الأستاذ محمد أنيس العبروقي (تونس)، مداخلة بعنوان "استعادة المثال الإيثيولوجي في مؤلفات الأنوار"، اهتمّ فيها بالمؤثّرات العمليّة والعلميّة التي ساهمت في تطوير أفكار الأنوار منذ نشأتها، باعتبارها تعلّقت بما شهده مجال تشخيص الأمراض والبحث في أسبابها، وبيّن أنّ ظهور نقطة تحول في إدراك علم أسباب الأمراض وتعريفه خلال القرن الثّامن عشر في أوروبا، كان له انعكاس على أفكار الأنوار، خاصّة في التّحوّل نحو التّفكير العقلاني والفصل بين العلم والميتافيزيقا.
وانتظمت الجلسة العلميّة الخامسة والختاميّة لأشغال النّدوة، برئاسة الأستاذة حليمة ونّادة، وقدّمت في مستهلّها الأستاذة ليندا جيل (فرنسا)، مداخلة بعنوان "زاديك، كنديد والسّادي: من قصص الرّحلات إلى معارف الأخر"، وقد اهتمّت فيها ببيان أثر ثقافة الشّرق في صياغة التّصوّرات التّنويريّة لدى فلاسفة الأنوار، وقد نهلوا ممّا تتيحه تلك الثّقافة من قدرة على الخيال واستيعاب ثمار التّجربة الإنسانيّة في الواقع، وقالت في هذا السّياق إنّ فولتير تأثّر بـ"ألف ليلة وليلة" في قصصه الفلسفيّة، فاستمدّ منها مشاهدها الشّرقيّة، وتجاربها الاستثنائيّة، وشخصياتها الغريبة، ليقول ما يريد في الفكر والسّياسة.
وقدّمت الأستاذة هاجر حراثي (تونس)، مداخلة بعنوان "الصّالونات الأدبيّة النّسائية بين العرب والغرب"، اهتمّت فيها بالصّالونات والمجالس الأدبيّة النّسائية، باعتبارها ظاهرة مميزة للثقافة الغربيّة، وقد وُجدت في سياقات مختلفة نسبيّاً في الثّقافة العربيّة، ومثّلت منفذاً حاولت المرأة أن تستغلّه من أجل بناء مساهمتها في الفكر والثّقافة والمجتمع، وقالت حراثي إنّ الوقوف على المنزلة الحقيقيّة للمجالس الأدبيّة النّسائيّة من شأنه أن يصحّح الكثير من الأحكام والتّصوّرات والصّور النّمطيّة حول تمثّل العرب لأنفسهم وتمثّل الغرب لهم.
واختتمت الجلسة بمداخلة الأستاذة إيلينور الفانو (إيطاليا)، بعنوان "كتابات بسودو دوليسيوس الآريوباغي: مصدراً لدون ديشون"، استعرضت فيها بشكل سردي مطوّل بعض المقتطفات من كتابات مفكر فرنسي مغمورهو دون ديشون، وبيّنت أهمّية أفكاره في بناء السّياق التّنويري الغربي، وأنّه رغم ذلك لم يلق الاهتمام والدّرس في الثّقافة الغربيّة الحديثة. كما أشارت إلى أنّ الفكر التّنويري يتأسّس على معطيات مختلفة، منها ما يظهر على السّطح، ومنها ما يظلّ مغموراً، ولكنّه مع ذلك يكتسب قدرة على التّأثير والفعاليّة.