اليوم الدراسي: التجربة الفنية والدين
فئة: أنشطة سابقة
انتظم بمقرّ مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، الأربعاء 5 فبراير الجاري، اليوم الدّراسي "التّجربة الفنيّة والدّين"، وقد تضمّن جلستين علميّتين وجلسة حواريّة، وعُني المساهمون فيه بتبيّن خلفيّات المواقف المختلفة إزاء طبيعة العلاقة بين الظّاهرتين الفنّية والدّينيّة من خلال النّظر في بعض قراءات المذاهب الفقهيّة للفن وتصوّرها لحكمه، فضلا عن تتبّع أشكال حضور الدّين في عدد من الفنون، مثل الرّسم والمسرح والأدب.
انطلقت فعاليات اليوم الدّراسي بكلمة افتتاحية قدّمها الأستاذ نادر الحمّامي، رحّب فيها بالضّيوف المساهمين والحضور، وأطّر فيها الموضوع العام، ضمن سياق البحث في علاقة الدّيني بالثّقافي، وبيّن أنّ اللّقاء يطرح ثنائيّة أساسيّة تتمثّل في "الدّين البهيج" في مقابل "الدّين النّكدي"، مستحضرًا عوامل الصّراع بين التّجربة الفنّية والدّين، مبيّنًا أنّه صراع أملته صفة النّزاع حول المطلق، وأنّه يتمظهر في محاولة الدّيني تسييج الفن بلافتات منها "التّعدي على المقدّسات" وازدراء الأديان، وغيرها.
واستهلّت من ثمّ، أشغال الجلسة العلميّة الأولى، التي تولّى رئاستها الأستاذ صابر السّويسي، وقد بسط بعض الأفكار حول محاور الاهتمام التي يتوزّع عليها نظر الورقات المساهمة، فاعتبر أنّ التّجربة الفنّية في علاقتها بالدّين، تطرح عدّة أسئلة، ما يتطلّب تعميق النّقاش حولها، وبيّن أنّ العلاقة بين الفنّي والدّيني تنهض على أساس التّبادل والتّفاعل المتواصل بينهما سلبًا وإيجابًا، قائلاً: "إنّ بين الفنّ والدّين علاقات شتّى تتردّد بين طرفي نقيض، فهي قائمة على التّواصل مرّة والقطيعة مرّة أخرى"، كما اعتبر أنّ الفنّ من حيث هو إبداع يعبّر عن شكل من أشكال التّسامي الرّوحي، وأنّ الدّين في تجلّ من تجليّاته محاولة للارتقاء بالبعد الرّوحي في الإنسان، وأنّ كليهما ترجمه عن وعي الإنسان بذاته وعالمه ووجوده واقعًا ومتخيّلاً، بما يفترض ذلك من قيم جماليّة وروحيّة وأخلاقيّة.
وقدّمت الأستاذة نرجس الدّرويش، مداخلة بعنوان: "الفن من منظور بعض المذاهب الفقهيّة"، اهتمّت فيها بتزامن حضور الظّاهرة الفنّية داخل المدوّنة الفقهيّة مع الخوض في مضامين اجتماعيّة ذات غايات نفعيّة، وبيّنت أنّ الدين مثّل أهم ظاهرة اجتماعيّة انبثق عنها الفن وتطوّر، كما اعتبرت أنّ الفنون على اختلافها أدوات تُصطنع لخدمة شؤون الدّين ومقتضيات العبادة، وأنّ لذلك أحاطت بنشأة العمل الفنّي الكثير من الشّروط الدّينيّة والأخلاقيّة، ما جعل التّداخل بين الظاهرة الفّنية والظّاهرة الاجتماعيّة عميقًا. وتساءلت "هل يعني هذا أن الفن لم يعد سوى تابع للدين والأخلاق، خادمًا لعقليّة جماعيّة وعادات أخلاقيّة معيّنة؟"، كما أشارت إلى أنّ الفن يعبّر عن شواغل فقهيّة موحّدة ترمي إلى بناء مجتمع مفارق ينتظم وفق أسس دينيّة وأخلاقيّة بحتة، لذلك تتأسّس الظّاهرة الفنّية داخل العالم على مقاييس استطيقية مرتبطة بمفهومي الخير والحق الإسلاميين. وبيّنت أنّ الفقيه ينطلق في تقييم النّشاط الفني والحكم عليه من إرث ديني يضرب بجذوره في آثار السّلف وأخبارهم، وأن العلاقة بين الفقيه والفنّان تتخذ عادة شكل صراع ثقافي بين معطيات ماض مجيد "مثالي" لا غنى عنه، وتراث حضاري جديد فيه الكثير من العمق والإغراء.
وقدّمت من ثمّ الأستاذة سماح حمدي مداخلة بعنوان: "والشعَرَاء يَتَبعهم الغاوون"، اهتمّت فيها بالعلاقة بين القرآن والشّعر، وبيّنت طبيعة المشافهة في ثقافة العرب قبل الإسلام، وأنّ عمودها الشّعر، باعتبار أنّه وسيلتهم للتّعبير وفنّهم الأوّل في التّواصل مع محيطهم وبيئتهم، لذلك أضحى الشّعر محملاً من مقوّمات الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وتواصلت أهميّة الشّعر في الثّقافة العربيّة حتّى إنّ النّص القرآني لامس الشّعر، وعمل على تعريفه وتعريف الشّاعر، على اعتبار التباس المقدّس بالتّعبير الفنّي، كما بيّنت التّنابذ بين المقدّس والشّعر، بناءً على نوع من الصّراع حول امتلاك دائرة المقدّس والمطلق، وقالت "إنّ ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة والدّين المطلق والأخلاق المطلقة، هو الذي يسقطنا في دوامة العنف ورفض الآخر".
واختتمت الجلسة العلميّة الأولى بمداخلة الأستاذة إيناس بن عمر بعنوان "معراج النفري: قراءة في تناغم الفنّ والدين"، بيّنت خلالها أن الأدب الصّوفي والفنّ الصّوفي عامّة موازيان للتّجارب الرّوحيّة معبّران عنها، وأنّ نظرة المتصوّفة للفنّ والدّين معًا تقع على نقيض نظرة الفقهاء للعلاقة بينهما بوصفهما من المتناقضات أو المتنافرات مع الإشارة إلى اختلاف المذاهب نسبيًّا حول هذه المسألة وتفاوت مواقفهم من تحريم الفن ابداعًا وتلقّيًا وحجّتهم المتواترة في ذلك أنّ الفنّ يبعد الإنسان عن دينه ويلهيه عن ذكر الله. وأشارت إلى أنّ هذا التّناقض يقود إلى تفسير عمليّة التّهميش المقصودة التي تعرّض لها النّثر الصّوفي في فترات تاريخيّة طويلة شهدت صراعًا بين الفقهاء المتحالفين مع السّلطة السّياسيّة والمتصوّفة الذين كانوا ساعين إلى تأسيس بدائل سياسيّة واجتماعيّة وقيميّة وثقافيّة، وبيّنت أنّ المتصوّفة قد احتاجوا في سعيهم ذاك إلى أشكال فنّية معبّرة عن أطروحاتهم التي هي نتاج تجارب ذوقيّة عاشوها في ارتباط باستغراقهم في التّجربة الصّوفية الفرديّة الباطنيّة.
وانطلقت الجلسة العلميّة الثّانية برئاسة الأستاذة أم الزين بنشيخة، واستهلّت بمداخلة قدّمها الأستاذ سفيان الشّعري، بعنوان: "الفنّي والدّيني زمن النّهضة الإيطاليّة"، اهتمّ فيها بسعي رجال الدّين إلى احتواء الإبداع الفنّي منذ بروز توجّه فنّي جديد في أوائل القرن الخامس عشر بإيطاليا، وخاصّة بمدينة فلورنسا التي تعدّ مهد النّهضة الفنّية والثّقافيّة ومن بعد ذلك مهد الحداثة، واعتبر أنّ هذا التوجّه، وإن نشأ انطلاقًا من الرّجوع إلى الموروث الفنّي والثّقافي الكلاسيكي، فإنّه قد تميّز بألوان وأشكال مختلفة حسب الأوساط السّياسيّة والثقافية المختلفة وحسب انفراد الفنّان بطابعه الخاص، وعدّد المتدخّل أمثلة عن أسماء فنّانين ممّن قدّموا روائع فنّية خالدة عبّرت عن تصوّر جديد للإنسان في علاقته بالخلق والخالق والإنسان الباحث عن الحقيقة الإلهيّة عبر الإيمان والإبداع، وبيّن أنّ الأعمال الفنّية التي ارتبطت بالمقدّس استفادت من الفضاء الدّيني الذي مكّنها من آليّات فنّية جديدة، وأثّر في مستوى تصوّر الإنسان للعالم.
وقدّم الأستاذ فتحي بوزيدة مداخلة بعنوان: "الفن الملتزم في اختبار المقدّس"، اهتمّ فيها ببيان أثر التّصوّرات الدّينيّة والتقديسيّة على تمثّل الإنسان لجسده وتعامله معه، وحرّية امتلاكه، ومدى قدرته، انطلاقًا من ذلك على كشفه للنّور أو إخفائه وحجبه، أو على التّعبير عنه وبه من خلال محاولة فهمه، وقدّم في متون ذلك قراءة لبعض الأعمال الفنّيّة التي تحتفي بالجسد في مستويات تعبيريّة متفاوتة، تبدأ من درجة الفن الملتبس بالمقدّس (الجسد المحجّب) مرورًا بمرحلة التخلّص أو الخلاص الفنيّ (الجسد في محاولة انعتاق) وصولاً إلى مرحلة الكشف، التي ينعكس خلالها وضوح الجسد مع وضوح الرّؤية للمقدّس وانسجام تمثّله مع إدراك الجسد.
وأحيلت الكلمة إلى الأستاذ حاتم التليلي، فقدّم مداخلة بعنوان: "المذبح الإلهي وتشغيل الفرجة خارج الأطر المسرحيّة"، اهتمّ فيها بكيفيّة تحرير الإله مسرحيًّا من العقل الأداتي، واعتبر انطلاقًا من ذلك أنّ فكرة الإله التي يحاول المسرح تمثّلها فنّيًا، قد تتحوّل من مستوى مسرحة الواقع إلى مستوى تديين المسرح، فيفقد الفعل الفنّي دلالته الرّمزيّة التي تتجاوز مستوى ما هو كائن إلى عوالم روحيّة لا تتحدّد سوى فنيًّا، لينقلب بشيء من "الجنون" إلى فنّ منزوع الرّوح والمعنى، قائلاً: "لقد تم تجريد الفن من روحنة العالم منذ توغّله في الانتساب إلى اللوغوس". وانتهى إلى اعتبار أنّ المسرح أصبح يستثمر في خطابه الإرهاب، مشيرًا إلى انعكاس ذلك على طبيعة الفعل الفنّي ومآلاته المستقبليّة في ظلّ واقع يلغي حضوره، بل ويزيحه من أجل تكريس أبعاد لا تعكس العمق الفنّي الذي يبقى كامنًا في الإنسان بعيدًا عن كلّ تصوّر تقديسي للظاهرة الدّينية.
واختتمت فعاليات اليوم الدّراسي "التّجربة الفنيّة والدّين"، بجلسة حوارية كان مدارها تقديم كتاب " الفن والمقدّس نحو انتماء جمالي إلى العالم" للأستاذة أم الزين بنشيخة، بمشاركة الأستاذة هبة المسعودي والأستاذ عماد حمدي، وقد أدار الحوار الأستاذ نادر الحمامي. وبيّنت الأستاذة هبة المسعودي أهمّية الكتاب فكريًّا وفلسفيًّا وعمق القضايا التي يطرحها في سياق العلاقة بين الفنّ والمقدّس، وقالت إنّ المؤلَّف يتميّز بطرافة الطّرح وبفرادة الرّؤية وعمقها ما يجعله حريًّا بالاطّلاع والقراءة من طرف الباحثين والمثقّفين، كما أثنى الأستاذ عماد حمدي على الكتاب وصاحبته، وبيّن أهمّية التّرحال الذي ينجزه الكتاب بين الفنّ وأفق اللاّهوت، قائلاً "إنّه يقوي إمكان السّكن الجمالي في العالم".