تقديم كتاب "المصحف وقراءاته"
فئة: أنشطة سابقة
انتظمت ببيت الحكمة بتونس العاصمة، يوم الخميس 9 مارس الجاري، جلسة علمية تمّ خلالها تقديم كتاب "المصحف وقراءاته" الذي صدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. أدار الجلسة الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي، وقدّم كل من الأستاذ نادر الحمامي والأستاذة نائلة السليني مداخلة حول الكتاب.
استهل الأستاذ الشرفي تقديمه في اللقاء بنبذة قصيرة عن تاريخ هذا العمل، والذي بدأ التفكير فيه منذ تسعينيات القرن الماضي أمام ما أضحت عليه الدراسات القرآنية من هيمنة الاستشراق، ومن ثم انطلق العمل بالاطلاع على المصاحف القديمة من القيروان إلى باريس وألمانيا وغيرها وصولا إلى أقدم الوثائق المتمثلة في الرقوق والمخطوطات الصنعانية، وهي موجودة في اليمن، وأشار إلى أن العمل قد توزّع على قسمين؛ اهتم الأوّل بجانب المخطوطات، في حين اهتم الثاني بتجريد المادة الذي دام سنوات عديدة، وأنجز في جذاذات لكل آية من الآيات بكل ما تعلّق بها في كتب التفسير وكتب المصاحف وكتب القراءات وكتب الناسخ والمنسوخ وكتب أسباب النزول. وقال الشرفي، إن هذا العمل لم يكن لا سهلا ولا بديهيا، وأن الغاية منه علمية بحتة، وخلص إلى تثمين الدعم الذي حظي به العمل منذ البداية من مؤسسات بحثية وعلمية غربية وعربية، وصولا إلى دعم مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث التي تبنت نشر الكتاب بأجزائه الأربعة، وقال إن غاية العمل في النهاية هي الإسهام في توفير مادة خام للقيام بالدراسات العلمية التي تقتضيها المعرفة الحديثة، والتي من شأنها أن تغني الباحث عن الرجوع إلى عشرات المصادر والمخطوطات.
وأحيلت الكلمة إلى الأستاذ نادر الحمامي، فأشاد بالفضل الكبير لهذا العمل على الباحثين المساهمين فيه من جهة التكوين المعرفي والاطلاع الدّقيق على المصادر لمدة سنوات متتالية دون انقطاع، وأشار إلى السياق المعرفي والعلمي الذي يتنزل في إطاره ''المصحف وقراءاته''، ومنهجية العمل التي تم اتباعها، وقال إنه يندرج ضمن مبحث عام هو الدراسات القرآنية الذي يتفرّع إلى ثلاثة اتجاهات، بدءا بالاتجاه الكلاسيكي القائم على المباحث الفيلولوجية وعلى تجميع المادة من المصادر القديمة، ثم بعد ذلك الاتجاه التاريخي الذي بحث في المؤثرات الداخلية والخارجية في نصوص القرآن، وصولا إلى الاتجاه الثالث الذي قام على المقاربات الأدبية والأسلوبية والجمالية للنص القرآني، وقال إن ''المصحف وقراءاته'' لا يتنزّل بدقّة في أحد تلك الاتجاهات القرآنية نظرا إلى أنها اتجاهات استشراقية بالأساس، وأن هذا العمل أراد منذ البداية أن يكون تونسيا صرفا، وهو نتاج الجامعة التونسية، لذلك فهو يتجاوز الأعمال الاستشراقية الجدالية والأعمال المفردة التي حاولت أن تقارب الدراسات القرآنية، وقال إن السبق الذي يسجله هذا العمل ليس في الفكرة بقدر ما هو في ضخامة الجمع ودقّة الجرد الذي طال جميع ما دوّن عن مواد القرآن وحولها في المصادر. وقال إن منهجية العمل توجّهت أساسا إلى جمع المادة كما وردت في المصادر، ومن ثم ترتيبها بجميع الاختلافات التي صاحبتها وفق ورودها في المصدر الأقدم دون تكرارها إذا تكرّرت في مصادر لاحقة زمنيا، ودون التعليق عليها، واستعرض الحمامي عددا من النماذج من مواد الكتاب وفسّر طرق الاشتغال عليها منهجيا وعلميا بشكل دقيق ومفصّل.
وتناولت الكلمة بعد ذلك الأستاذة نائلة السليني التي ركزت على جوانب من العمل، وقالت إن ''المصحف وقراءاته'' يقدّم بطاقة ولادة لكل لفظ ورد في القرآن استنادا إلى جميع مصادر التفسير السنية والشيعية منها وإلى مصادر علوم القرآن ومصادر كتب اللغة، وقالت إن الكتاب يصطفي الأقدم في الولادة في التاريخ، وأنه يفتح أبوابا كثيرة في اختلاف القراءات، ومن ضمن ذلك أن بعض المصادر القديمة كانت تعتبر قراءات للرسول شاذة ومخالفة، رغم أنه ناقل الوحي ومبلّغ الرسالة، إلى غير ذلك من الأمثلة التي رأت السليني أنها تفتح مجالات أرحب للدراسات القرآنية المستقبلية، باعتبارها توفّر مادة ضخمة ومرتبة وشاملة لجميع المصادر التي قاربت نصوص القرآن وتمثّلتها عبر قرون. وتوقفت السليني عند مشغل آخر في هذا العمل اعتبرته مهمّا، وهو مشغل التكرار في القرآن بالنظر إلى انتظام الآية في نص المصحف؛ وهو ثلاثة أصناف، التكرار التام للآية، والتكرار الجزئي، وتكرار المعنى دون اللفظ. وقالت إن التكرار مشغل مفيد في تدبّر النواة القرآنية واستقراء تداخل الشفوية والكتابية في الخطاب القرآني كما تشكل في المصحف وتعلّق الآية بالآية في السورة نفسها أو في غيرها من السور. واعتبرت أن مشغل التكرار يجيب عن جملة من التساؤلات؛ ومن بينها ما طرحته قائلة: ''هل يمكن رد القرآن إلى صيغة أصليّة؟'' وخلصت من ذلك إلى طرح التساؤل حول طبيعة النواة الصلبة في الوحي، وهل هي كامنة في المكرر أم في غير المكرر. وانتهت إلى اعتبار النص ''كائنا حيا ينمو نموّ قارئه''، لذلك يفلت التفسير القرآني وفقا لمضامين الكتاب من الأطروحة الأحادية، طالما أن كل مقاربة مرتبطة بحقل دلالي يحكمه نسقه الناظم وسياقه المعرفي.