تقديم كتاب "عقائد الشيعة الاثني عشريّة وأثر الجدل في نشأتها وتطوّرها حتّى القرن السابع من الهجرة" لعبد الله جنّوف
فئة: أنشطة سابقة
استهلّ مقرّ مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بتونس سلسلة أنشطته العلميّة المبرمجة تباعا بحلقة قراءة ونقاش موضوعها الأساسيّ كتاب "عقائد الشيعة الاثني عشَريّة وأثر الجدل في نشأتها وتطوّرها حتّى القرن السابع من الهجرة" بحضور صاحب الكتاب الدكتور عبد الله جنّوف، وتقديم الدكتور صلاح الدين العامري.
وجدير بالذكر أنّ الكتاب موضوع القراءة المنشور بدار الطليعة سنة 2013، هو في الأصل بحث أنجز لنيل شهادة الدكتوراه بالجامعة التونسيّة، كما بيّن ذلك الدكتور نادر الحمّامي الّذي أدار جلسة النقاش، ملاحظا أنّ قراءة هذا الكتاب وتقديمه يندرجان في إطار واسع هو النظر في العقائد الإسلاميّة من زاوية تاريخيّة علميّة تكشف أثر التاريخ والفكر والسياسة والبنى الذهنيّة والظروف الحضاريّة العامّة في نشأة العقائد وتطوّرها، وهو أمر يسمح به عنوان الكتاب المحيل على النشأة والتطوّر، ولعلّ هذه الملاحظة المنهجيّة كاشفة عن الاختلاف بين النظرة التاريخيّة والمقاربة الإيمانية التمجيديّة المؤكّدة على سمة الثبات في العقائد.
وإثر هذا التأطير العام، فُسح المجال أمام الدكتور العامري لتقديم قراءته التي ضمّت قسمين كبيرين: القسم الأوّل وصفيّ تضمّن هيكل البحث العامّ وأهمّ قضاياه مبيّنا مزاياه وإضافته العلميّة والمعرفيّة؛ أمّا القسم الثاني، فكان قسما نقديّا تقييميّا يسائل صاحب الكتاب منهجا ومضمونا.
بالنسبة إلى القسم الأوّل الوصفيّ، فقد أشار الدكتور العامري إلى انبناء الكتاب على ثلاثة أبواب كبرى؛ يتعلّق أوّلها بمفهوم الإمامة، وهذا الأمر طبيعيّ بحكم أنّه يمثّل المعتقد الأوّل في الفكر الشيعي عامّة والفكر الاثني عشري على وجه الخصوص، وقد لاحظ الدكتور العامري اهتمام الدكتور جنّوف بتاريخيّة المفهوم، إذ إنّه قام على أربعة مفاهيم أساسيّة هي المنقبة والنصّ والقرابة والوراثة، شكّلت الفصل الأوّل من الباب الأوّل؛ تلك المفاهيم التي تقلّبت باستناد إليها عقيدة الإمامة وفق الظرف التاريخي وضرورات اجتماع الفرقة. أمّا الفصل الثاني من هذا الباب الأوّل، فرأى فيه المناقش اهتماما بمسألة الغيبة، وذلك من خلال بحثها من زاويتين؛ هما علل الغيبة وأحوال الغائب، والدكتور في كلّ ذلك ملتزم بتتبّع أثر الجدال في نشأة مثل هذه العقائد وتطوّرها، ممّا أوصل إلى نتيجة مركزيّة في الكتاب تتلخّص في أنّ الخطاب الشيعي الناتج كان "خطاب محنة" له وظيفتان: تعبويّة بالنسبة إلى الأتباع، ووظيفة جدالية إزاء المخالفين.
بالنسبة إلى الباب الثاني من العمل، فكان للنظر في الإلهيّات التي بحثها الدكتور جنّوف، وقدّمها الدكتور العامري من خلال فصلين؛ تعلّق الأوّل بعقيدة التوحيد، وارتبط الثاني بأفعال الإنسان، وترتّب عن هذا البحث جملة من النتائج من أهمّها: ارتباط مفهوم التوحيد بالتاريخ ممّا جعله مفهوما منفتحا دلاليّا، غير أنّ ذلك لم يمنع ارتباط التوحيد دائما بالعقيدة المركزيّة؛ أي الإمامة على الرغم من تبدّل الظروف التاريخيّة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تمّ استنتاج انخراط أئمّة الشيعة في الجدل الدائر حول مقولة التوحيد. وبالنسبة إلى الفصل الثاني المتعلّق بالإلهيات وموضوعه أفعال العباد، فقد تمّت معالجته من خلال مفاهيم كثيرة كالمشيئة والسعادة والشقاء والتصحيح ومفهوم الإيمان، ليصل الأمر بدوره إلى جملة من النتائج من أبرزها أنّ عقيدة الاثني عشرية في الفعل الإنساني قد نشأت مخالفة لأهل الجبر وأهل القدر في الآن نفسه، ثمّ إنّها لم تكن عقيدة مستقرّة، لأنّها عرفت تصحيحين على الأقلّ؛ أوّلها قام به عليّ بن موسى الرضا، والثاني انطلق مع الشيخ المفيد، وهذا ما يكشف تاريخيّة العقائد وأثر الجدل في تشكلّها. واللافت للنظر أيضا أن مباينة الاثني عشريّة للجبر والقدر لم تمنع الدكتور جنّوف حسب الدكتور العامري من بيان أنّها مالت إلى الجبرية باقتران القول في فعل الإنسان بعقائد أخرى، مثل عقيدة الطينة وطاعة الإمام. ومن جهة أخرى، تمّت ملاحظة أنّ الحاجة الاجتماعية كانت مقدّمة على المسألة العقائدية، وهو ما يمكن تبيّنه عند تقليب النظر في عقيدة التقيّة مثلا.
واستكمالا لعرض الكتاب، قدّم الدكتور العامري الباب الثالث منه، والذي خصّصه صاحبه للأخرويّات وفيه بحث في الرجعة المرتبطة بآخر الزمان التي اعتبرها العقيدة التأسيسية الأولى لدى الشيعة، وكذلك العقائد المتعلّقة بما بعد الموت، وكان من نتائج هذا النظر في الأخرويات التأكيد على أنّ الرجعة كانت في أوّل الأمر ممكنة، غير أنّه تحت وطأة الجدل والاجتماع أصبحت واجبة. ثمّ إنّ الإيمان بالرجعة لدى الاثني عشريّة يمثّل وسطا بين إهمال السنّة وغلوّ النصريّة. أمّا النتيجة الثالثة، فتتعلّق بملاحظة أنّ عقيدة الرجعة لا تختلف في جوهرها عن نماذج مكرّرة وقديمة.
وأمّا بالنسبة إلى القسم التقييمي النقدي، فقد أورد الدكتور العامري أربع ملاحظات أساسيّة تتعلّق أولاها بالتساؤل عن أهميّة تمديد مدّة البحث إلى القرنين السادس والسابع الهجريّة، فهما قرنان في رأي المناقش يمثّلان بداية عصور الجمود الفكري والحضاري ممّا ينسّب من إمكانيّة البحث عن تحوّلات في الفكر الاثني عشري بعد القرن الخامس. وناقش الدكتور العامري أيضا ما رآه تبخيسا واستنقاصا من المتخيّل الشيعي في بحث الدكتور جنّوف معتبرا أنّ احتقار المتخيّل هو طرح قديم تجاوز البحث اليوم. وبالإضافة إلى ذلك نقد الدكتور العامري ثقة الدكتور جنّوف بأخبار لا ترقى إلى مرتبة الثقة بها، هذا إضافة إلى بعض الهنات التاريخيّة المرتبطة بتطوّر الفكر الشيعي وتحوّلاته.
إثر هذا التقديم قام الدكتور عبد الله جنّوف بالتعقيب والتعليق على القسمين الوصفي والنقدي، وصلغ ذلك في شكل جملة من الملاحظات انطلق فيها بسؤال يعدّه إشكاليّا، وهو: متى نشأ التشيّع؟ ووجاهة هذا السؤال كامنة في تقديم إجابة مختلفة عن إجابة التشيّع الإيمانية المعروفة ومفادها على حدّ عبارته: "إنّ التشيّع بذرة بذرها النبيّ وأنّ التشيّع هو الإسلام، والإسلام هو التشيّع" هذا بالإضافة إلى إجابة أخرى تعيد التشيّع إلى حياة النبيّ، وأخرى إلى ما بعد وفاته بقليل، وفي سقيفة بني ساعدة تحديدا، ومن الآراء من يعتبر مقتل عثمان وما تلاه من أحداث كصفيّن، أو كذلك واقعة الطفّ بكربلاء منطلقات تاريخية للتشيّع. وذكر الدكتور جنّوف أنّ ما ورد في البحث من حديث عن النصّ مبني على هذه الاختلافات، ومدراها كما هو ملاحظ: متى نشأ التشيّع؟ ذلك السؤال الذي يقدّم له إجابة ملخّصها أنّه لا يمكن الحديث مطلقا عن تشيّع طيلة تجربة المدينة، إذ إنّ التمايز بين المسلمين في تلك الفترة لم يكن تمايزا عقائديّا، وإنّما هو تمايز طبقيّ منقبيّ، أي قائم على المناقب الشخصيّة، وعلى هذا الأساس وجدت طبقة أولى ضمّت المهاجرين والأنصار، وطبقة ثانية تتكوّن من المؤلّفة قلوبهم والطلقاء، في ما شكّل جمهور الناس الطبقة الثالثة. وبناء على ذلك رُفع شعار "هويّة كلّ رجل مناقبُه"، وبذلك كان الاستنتاج ألاّ نصّ في تجربة المدينة وهذا ما يبرّر البحث في تطوّر فكرة النصّ، وهو بحث أوصله إلى نتيجة مفادها أنّ قول الشيعة إنّ النصّ تعيين إلهي، كذا على الإطلاق، هو قول لا حقيقة له، ولكن حين أصبح النصّ بمعنى التقدّم في الفضائل عاجزا عن تحقيق الهدف منه تطوّر المفهوم مع إمامة الحسن والحسين وأصبح النصّ مرتبطا بالقرابة لا بالمنقبة، إلى غير ذلك من التحوّلات الدالّة على تطوّر العقائد وتغيّرها. ويشير هنا الدكتور جنّوف إلى ما أغفله الدكتور العامري أثناء تقديمه، ويتعلّق الأمر بالبحث في مفهوم النصّ بالمعنى الاصطلاحي، أي متى أصبح النصّ يعني النصّ على اثني عشر إماما أوّلهم عليّ وآخرهم المهدي؟ إنّ هذا المفهوم حسب الدكتور جنّوف لم يتبلور إلاّ في القرن الثالث الهجري مع هشام بن الحكم وابن الراوندي. وباستقراء النصوص وتحليلها وصل الدكتور جنّوف إلى ملاحظات مهمّة في هذا المجال، إذ إنّه يعتبر أنّ مبايعة الناس للحسن بن عليّ كلن مناطها الطاعة لا النصّ، وعلى هذا الأساس ميّز بين البيعة لمعاوية والاعتقاد بإمامة الحسن، ممّا نتج عنه ظهور جسم اجتماعيّ اسمه شيعة عليّ ولكن دون أن تكون لهذا الجسم مقالة عقديّة أو فقهيّة متميّزة عن بقيّة المسلمين، ولكنّه سيكون النواة الأولى للتشيّع، وأنّ العشرين سنة الفاصلة بين تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية ومعركة الطف بكربلاء هي المرحلة التكوينيّة للتشيّع.
وأضاف الدكتور جنّوف جملة من الملاحظات على علاقة بتقييم الدكتور العامري من بينها تعرّضه لقضيّة الأخبار أو عدمها، ومسألة الأخبار المتواترة، إذ رأى أنّ هذا الأمر لا قيمة له واقعيّا بالنسبة إلى المتعبّد بتلك الأخبار ذلك أنّه لا ينظر إلى معايير صحّتها، وإنّما يمارسون دينهم كما يقول له المراجع. ومن الملاحظات أيضا التطرّق إلى مسألة المهدويّة واعتبارها مقولة إسلاميّة كما جاء في نقد الدكتور العامري، ممّا يوحي بتشابهها مع المهدوية في الفكر السني مثلا أو حتّى في أديان أخرى، ومفاد الملاحظة أنّ هناك فرقا واضحا بين التصوّرين الشيعي والسنّي؛ فالمهدي لدى السنّة يمكن أن يوجد. أمّا مهديّ الشيعة الاثني عشريّة، فهو مولود وموجود وسيظهر، وهو من أصول الاعتقاد.
وعقب هذا الحوارَ تدخّل عدد من الحضور بالنقاش والتفاعل والنقد، وفتحوا انطلاقا من التقديم والتعليق أبوابا عديدة للنظر، ممّا سمح بفتح مجالات أخرى للبحث في العقائد وتاريخيتها وتحوّلاتها ونشأتها وتطوّرها وأثر الاجتماع فيها في ضوء المقاربات العلمية الحديثة المنتمية إلى اختصاصات معرفيّة مختلفة تنأى بمثل هذه الدراسات المتناولة للعقائد عن المقاربتين الشائعتين القاصرتين، أي المقاربة الإيمانية التمجيديّة الجداليّة، والمقاربة الاستهجانية التحقيريّة، لتقارب مثل هذه الإشكاليّات مقاربة علمية تفهمّية تاريخيّة.