ندوة: "المؤسّسة الدينيّة في الإسلام... أيّ دور؟
فئة: أنشطة سابقة
انعقدَتْ يوميْ 29 و30 نوفمبر 2014 بتونس العاصمة ندوة علميّة دوليّة بعنوان: "المؤسّسة الدينيّة في الإسلام... أيّ دور؟"، وهي من تنظيم قسم الدراسات الدينيّة بمؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث. وقد قُدّمت خلال الندوة عدّة مداخلات قيّمة من عدد من الأساتذة الجامعيّين المتميّزين والباحثين الشبّان من تونس، أو وفدوا عليها من المغرب وإيطاليا ومصر والإمارات، وواكبها جمع من الحاضرين الذين تابعوا المداخلات، وساهموا في تأثيثها بما طرحوه من أسئلة واستفسارات وتعقيبات على أصحاب الورقات المقدّمَة. وتمّ كلّ ذلك في جوّ من الحوار العلمي الرصين.
لقد افتُتح هذا اللقاء العلمي بكلمة ترحيبيّة وتقديميّة من المشرف على الندوة الأستاذ بسّام الجمل، وقد بيّن في كلمته أنّ المؤسّسة الدينيّة الإسلاميّة، بكلّ هياكلها وتنظيماتها، قد كان لها أثر بالغ، يزيد أو ينقص باختلاف العصور، في تشكيل ذهنيّة إسلاميّة جمعيّة استبطنت القيمَ الاجتماعيّة والدينيّة، ومنظوماتِ السلوك والأخلاق والمعاملات التي أقرّها القيّمون على تلك المؤسّسة، وقد استخدموا وسائل شتّى في تحقيق هذه المهمّة، مثل التدريس والتأليف والإفتاء وتكريس التقليد الديني.
وذكّر المشرفُ على الندوة بأنّ المؤسّسة الدينيّة الإسلاميّة توفّرتْ فيها المرتكزاتُ الأساسيّة الثلاثة التي لا يمكن بدونها الكلام على كيان مؤسّسي، وهي مثلما حدّدها المفكّر والفيلسوف اليوناني الفرنسي كاستورياديس: المعايير المرجعيّة، والهيكلة، والفاعلون. والمؤسّسةُ، أيُّ مؤسّسة، تتميّز بخصائص ثلاث هي: الوظيفيّة والإلزاميّة والرمزيّة حسب ما قرّره كلّ من بيتر برغر وتوماس لوكمان. وجميع ذلك يدلّ، من بين ما يدلّ، على المنزلة المرموقة التي حظيت بها المؤسّسة الدينيّة في الإسلام، إذ مثّلت حلقةَ وصل لا غنى عنها بين مالكي المعرفة الدينيّة والمتصرّفين في المقدّس من ناحية، وجمهورِ المؤمنين وعامّتِهم من ناحية أخرى، بل إنّ في التاريخ الإسلامي شواهدَ عديدة على حاجة المؤسّسة السياسيّة للمؤسّسة الدينيّة، والعكس صحيح أيضا، وإن شهدت العلاقاتُ بين المؤسّستيْن فترات من التأزّم والتصادم، وربّما التنازع على حيازة السيادة الماديّة والرمزيّة.
واعتبر في ذات السياق، أنّ وضع المؤسّسة الدينيّة في المجال الإسلامي اليوم دقيق وحرج في نظر عديد الدارسين؛ فهي مدعوّة إلى مواكبة قيم العصر والاعتراف بها في آنٍ مثل الإنسيّة وحقوق الإنسان والمواطنة وحريّة المعتقد والضمير والتعدّدية والكونيّة وحقّ الاختلاف ونسبيّة الحقيقة وتاريخيّة المعرفة. ولكن إلى أيّ حدّ هي مستعدّة اليوم لتقوم بمراجعات جوهريّة في هيكلتها وفي مهامّها، أو لتقوم بنقد ذاتي ضروريّ إذا أرادت لنفسها التطوّر؟
وأشار أيضا إلى أنّ لا أحد ينكر اليومَ الأدوارَ الإيجابيّة التي أدّتها هذه المؤسّسة على امتداد التاريخ الإسلامي، إذ كان لها الفضل مثلا في تكوين أجيال من العلماء، وتزويدهم برصيد من المعارف الدينيّة بحسب المناهج المتاحة، ومنهم مَن تولىّ الإفتاء أو القضاء، وكان للمؤسّسة الفضلُ أيضا في جمع أهل الإيمان على أنماط من التديّن متشابهة أو متجانسة وحَمْلِهم على اتباع نهج في السلوك الديني والاجتماعي يؤلّف بينهم، ويجعلهم يحسّون بوحدة الهموم والمصير، كلّ ذلك في ظلّ مجتمعات "انقساميّة" تتميّز بهشاشة نسيجها الاجتماعي، بل إنّ هذه المؤسّسة شاركت، بأشكال مختلفة، في حركات التحرّر الوطني. ولكن، بالمقابل، ناوأت هذه المؤسّسةُ نفسُها نزعاتِ التجديد ودعواتِ تحديث الفكر الإسلامي. فكم من عالِم، هو من خرّيج تلك المؤسّسة، قد سُحِبت منه شهائدُه العلميّة، وأُحيل إلى المحاكمة (بخصوص جامعة الأزهر نذكر علي عبد الرازق، وبخصوص جامعة الزيتونة نذكر الطاهر الحدّاد).
لقد قدّم الأستاذ عبد المجيد الشرفي (تونس) مداخلة بعنوان "تحوّلات المؤسّسة الدينيّة في زمن العولمة"، وبيّن فيها أنّ السلطة السياسيّة، في المجال الإسلامي، نجحت إلى حدّ بعيد في تدجين المؤسّسة الدينيّة. ومن ثَمّ أصبحت هذه المؤسّسة هي التي تبحث عن الاستقلال عن المؤسّسة السياسيّة. ولاحظ الأستاذ الشرفي، أنّ الفقدان النسبي للمصداقيّة والتأثير الذي كانت تتمتّع به المؤسّسة الدينيّة قد تفاقم في العصر الحديث بسبب أنّ القانون الوضعي عوّض على التدريج القانون الفقهي باستثناء القوانين المتّصلة بالأحوال الشخصيّة. واللاّفت للانتباه أنّ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة أصبحت تزاحمها هياكل وتنظيمات اجتماعيّة أخرى تتحدّث باسم الإسلام، ولكن ليست لها نفس المرجعيّات التي تستند إليها المؤسّسة الدينيّة الرسميّة، وغدا ما ينطبق مثلا على الحركات الإسلامويّة وعلى كلّ من يمثّل الإسلام الاحتجاجي، بل إنّ هناك حركات دعويّة في العالم الإسلامي لا تتبع بالضرورة الدولة، وهي ما يدلّ على تشظّي المجال العمومي. والنتيجة المرتّبة على ذلك هي شيوع ظاهرة "الترميق" bricolage، فانتشرت أشكال من التديّن هجينة، وضاع المعنى نتيجة ذلك التشظّي وبرزت مؤسّسات جديدة، مثل "داعش" لا صلة لها بالمؤسّسة الدينيّة الرسميّة. ومثل هذه الصعوبات التي تجدها هي نتيجة لما يعانيه الفكر الديني في الإسلام من صعوبة في تجديد مقولاته. ومن ثمّ قدّر الأستاذ الشرفي أنّ تحديث الفكر الإسلامي هو العنصر الفعّال للتخلّص من هذا الوضع المتشظّي، وبذلك يكون المسلم المعاصر في طمأنينة نفسيّة ويتخلّص من الشعور الذي ينتابه من ضياع إيمانه في كلّ لحظة.
ثمّ قدّم الأستاذ طارق أوبرو (فرنسا) ورقة بعنوان: "نظريّة الفَرْقيّة ومفهوم المؤسّسة الدينيّة". وفيها عقد مقاربة أركيولوجيّة لفهم مفهوم "نظريّة الفرقيّة"، لأنّه يجيب عن واقع الحداثة معتبراً أنّ الإسلام هو أشدّ الأديان تعلّقا بهذا المفهوم. فقد فرّق الإسلام بين اللاّهوت والناسوت، باعتبار أنّ الإله لم يحلّ في الإنسان، وهو ما يدلّ على وجود تمييز بين عالمَيْ الشهادة والغيب. كما ميّز علماء الكلام بين الكلام النفسي والعبارة؛ أي إنّ هناك فارقاً بين مقاصد النصّ ومقاصد الإله. وعلى مستوى آخر أشار المحاضِر إلى أنّ الإسلام فرّق بين الشريعة والعقيدة. وبيّن أنّ الإسلام رسالة وظرف أو قل هو روح وجسد، بعبارة أخرى توجد في القرآن قيم كونيّة ولكن إزاءها يوجد ظرف كوني يتغيّر باستمرار. ودعا الأستاذ أوبرو إلى تغليف القرآن بروح العصر، وهو ما يستوجب فصل الدين عن الحضارة المنحطّة، وهو مطلب يتنزّل ضمن سياق العولمة. ومن الضروري الخروج ممّا يُسمّى بالخصوصيّة الدينيّة.
وتحدّث الأستاذ هاني نسيرة (الإمارات العربيّة المتّحدة) عن "المؤسّسة الدينيّة: التطوّر التاريخي وتحدّي الطرح البديل"، إذ سعى في ورقته إلى "قراءة التطوّر التاريخي لمفهوم المؤسّسة الدينية ومقارنته في الفضاءين السنّي والشيعي، منطلقاً في ذلك من إرهاصات نشـأتها الأولى في عهد الخليفتين المأمون والمتوكّل في العصر العبّــاسي، حيث كان مشروع مأسسة كلّ منهما لها مضادّا ومنافيا للآخر، وإنّه طرح على مفهوم المؤسّسة الدينية سُنّية أو شيعية دائما تحدّي الطرح البديل لها، الذي يصارعها وينجح أحيانا في إزاحتها، ولعلّ ما تمثله تمثيليات كما يعرف باتحاد العلماء المسلمين في قطر أو اتحاد علماء المقاومة في إيران، أو ما تمثله شخصيات سنّية وشيعية خارج سياق وإطار هذه المؤسسة التقليدي ما يدل على ذلك وغيره من الأمثلة".
واقترح الأستاذ نسيرة "قراءة تحدي الطرح البديل في تاريخ ومسار المؤسسات الدينيّة، وكيف يكون الصراع على المرجعية سُنّيا وشيعيا، من أجل استكشاف قوانين الحياة والجمود والزوال في هذه المؤسّسات شأن أية مؤسسات تاريخيّة أو معاصرة". وقد شدّد المحاضِر على أنّ المؤسّسة الدينيّة هي المؤسّسة الوحيدة التي لا يمكن احتكارها؛ فمؤسّسة الإفتاء في مصر مثلا لا تتبع مؤسّسة الأزهر. وقد لاحظ أنّ المؤسّسة الدينيّة الوحيدة التي لا يزال لها تأثير في النفوس والواقع التاريخي هي مؤسّسة الخميني في إيران.
واختتم الأستاذ محمّد حمزة (تونس) الجلسة العلميّة الأولى بمداخلة عنوانها: "مؤسّسة التأويل الرسميّة بين شرعيّة الوجود ومقتضيات التأويل". وقد بحث في هذه الورقة "في مؤسّسة التأويل في الإسلام تلك التي أعطت لنفسها تاريخيّا حقّ تدبّر القرآن واحتكار الحديث باسمه ناظرين في شرعيّة وجودها واقتضاء القرآن لها وفي وجوه حضورها المادّي والرمزي، ومدى فاعلية هذه المؤسّسة في تفسير القرآن والوظائف التي اضطلعت بها وأثرها في ضبط شروط تفسيره وطرائق تدبّره وانعكاس هذه الشروط على الفعل التأويلي وعلى علاقة المؤمن بنصّه المقدّس". وقد عيّن الخاصيّات السبع التي تتميّز بها مؤسّسة التأويل الرسميّة، وهي: ادعاء أهليّة التأويل، تثبيت السيادة واحتكار التصرّف في المقدّس، تثبيت سلطة النصّ المفسَّر، ضبط طرائق التفسير وشروطه، المحافظة والامتثاليّة، احتكار المعنى ومقاومة التنوّع، هيمنة النزعة الذكوريّة.
كما بحث الأستاذ حمزة "في مرتكزات خطاب هذه المؤسّسة وفق المقتضيات التي تطرحها التأويلية الحديثة، مستحضرين التحوّلات التي تشهدها الأديان في العصر الحديث مقارنين هذه التحوّلات بواقع تفسير القرآن في العالم الإسلامي ناظرين في آفاق تأويلية بديلة في الفكر الإسلامي الحديث تتجاوز العوائق التي تحول دون تحديث مناهج قراءة النصّ الديني عموما، والنصّ القرآني على وجه الخصوص".
أمّا الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي (المغرب)، فقد عنون مداخلته بـ: "المؤسّسة الدينيّة في الإسلام: القرويّين نموذجا"، إذ شدّد على "أنّ جامعة القرويّين قامت، منذ نشأتها وعلى امتداد قرون عدّة، بجملة الأدوار التي قامت بها مثيلاتها في العالم العربي الإسلامي. اختلفت تلك الأدوار بين العمل السياسي( تأكيد البيعة-تأييد القرارات السياسية الكبرى أو الاعتراض عليها، مقاومة الاستعمار، العمل على إمداد كلّ من الدولة والمجتمع برجال التعليم والقضاء والإدارة...)، غير أن الملاحظ هو أنّ القرويّين أخذت تتخلّى -تباعاً- عن مختلف هذه الوظائف والمهامّ نتيجة التطوّر الحاصل في بنيتَيْ كلّ من الدولة والمجتمع. هذا الواقع يحمل على التساؤل على النحو التالي: هل لا يزال في إمكان المؤسّسة الدينية أن تقوم بدور فاعل في الزمن الحالي( زمن بداية التحوّل الشامل) أم إنّ الوقت يستوجب التحاقها بمتحف التاريخ؟"
وقدّم الأستاذ عبد الراضي محمّد عبد المحسن رضوان (مصر) مداخلة بعنوان: " دور المؤسّسات الدينيّة في حماية التعدّدية الدينيّة ومواجهة الطائفيّة"؛ فالذي ذهب إليه صاحب الورقة هو "أنّ مؤسسة الأزهر خطّت بمداد ثابت المعالم متعدّد الألوان خطوطًا زاهيات في المجالين: نبذ الطائفية، وقبول التعدديّة الدينيّة، موظفة في ذلك من الآليات والوسائل ما دعا إليه الحادث الظرفي والطارئ العرضي، وكذلك ما استدعته المبادرة والمبادأة. لذلك، كان التنوع في تلك الوسائل والآليات ملائماً لطموحات الغايات وصعوبات المنال، رجاء أن تفلح واحدة إذا ما خيّبت غيرها الظنون. ولم تف بالمأمول، فتضافرت وتجاورت الوسائل العلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية، لتثمر في النهاية رؤى ومواقف شكّلت دور المؤسسة الدينية الأزهرية الذي تجسّد في الصيغ التالية متباينة الدرجات في الفاعليّة والتأثير والديمومة والأفول وفق طبائع الأحداث وعوامل الزمن هي وثيقة الأزهر وبيت العائلة ومواقف الأزمات السياسية (حروب، ثورات، فتن داخلية)، وإصلاح المناهج التعليمية، وشراكة الحوار الإسلامى المسيحي مع المؤسّسة الدينيّة بالفاتيكان، واعتماد الفقه الجعفري ضمن المذاهب الفقهيّة التعليميّة بالأزهر، والتسامح إزاء المدارس والجامعات الأجنبيّة في مصر، وأخيراً ثورة 1919 والشراكة القبطيّة باعتلاء منابر المساجد والكنائس". ويدلّ كلّ ذلك حسب عبد الراضي على أنّ التعدّدية التي كرّسها الأزهر تجلّت في ثلاث مجالات كبرى، هي السياسة والدين والعلم.
ودرست الأستاذة زهيّة جويرو (المملكة العربيّة السعوديّة) في ورقتها "دور الوسائط في تطوّر مؤسّسة الفتيا"؛ وفيها بيّنت "أنّ مدوّنات أصول الفقه ضبطت مفهوم الإفتاء وعيّنت شروط المفتي والمستفتي. وكان لتلك الحدود النظرية دور في توجيه المسار التاريخي للمؤسّسة الإفتائية، إلاّ أنّ هذه المؤسّسة تطوّرت من جهة أخرى، ومارست وظائفها طبقا لما فرضته عليها ظروف الواقع وملابسات التاريخ. وقد مثّل الوسيط الذي تتمّ عبره عمليّة الإفتاء أحد الأطراف الفاعلة في توجيه مسار المؤسّسة، سواء في مستوى آليات الإفتاء أو مرجعيّاته وشروطه وشروط سائر الأطراف المشكّلة له". وقد تركّز اهتمامها في هذا البحث على معالجة الإشكالية التالية: كيف أثّر انتقال الإفتاء من الوسيط الشفوي المباشر إلى الوسيط الكتابي أوّلا ، ثمّ من الوسيط الكتابي إلى الوسيط السيبارنطيقي عبر القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية ثانيا في نظام الإفتاء نفسه وفي المؤسسة الإفتائية وفي وضعها المعرفي ووظائفها، وفي سائر ما يتعلّق بها من بنى ومكوّنات؟ هل ساهم هذا الانتقال في تطوير الثقافة الفقهية وفي فتح آفاق الاجتهاد أم مثّل سببا لتراجعهما وانغلاقهما؟ وهل كان تأثير الانتقال ذاك في مختلف أركان المؤسّسة الإفتائية (المفتي -المستفتي - الفتوى أو الحكم - المرجع و الثقافة الفقهية) متماثلا من حيث نوعيّته ودرجته أم كان مختلف الطبيعة متفاوت الدرجات؟ّ".
وخصّص الأستاذ عدنان المقرانـــي (إيطاليا) مداخلته لدراسة: "المؤسّسة الدينيّة وتحدّي الحداثة من منظور مقارن"، إذ بنى ورقته على "جملة من المقارنات مع المؤسّسات الدينيّة في العالم، مثل المؤسسات الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية والبوذية، وفي الإطار الإسلامي المؤسسات الشيعية الاثنا عشرية والإسماعيلية...إلخ، وذلك لإعادة النظر في تعريف المؤسسة الدينية في الإطار السُنّي العربي بشكل خاصّ، سواء من حيث علاقتها بالدين كرسالة أو بالسياسة كدولة أو بالمجتمع المدني كفضاء عامّ. بالتساؤل عمّا تبقّى من المؤسّسة السنّية التاريخية؟ هل من الضروري إحياؤها؟ وما البديل؟ وذلك بالاستفادة من تجارب الأديان الأخرى في تعريف المؤسسة السنّية العربية شكلاً ومضمونًا ودورًا".
وبحثت الأستاذة ناجية الوريمي (تونس) في "المؤسّسة الدينيّة والسلطة السياسيّة: من الولاء إلى المواجهة"، واستهلّت مداخلتها بالإشارة إلى أنّ "للمؤسّسة الدينيّة علاقة معقّدة بالسلطة السياسيّة: إنّها علاقة غير مستقرّة، ومتغيّرة بتغيّر موازين القوى بين الطرفين، وخاصّة بتغيّر السياسة الثقافيّة والاجتماعيّة المتّبعة. وقد مرّت هذه العلاقة -في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة- بوضعيّات متباينة، لعلّ أكثرها تباينا تلك التي كانت في العصر العبّاسيّ الأوّل، حين تجاوزت المؤسّسة الدينيّة وظيفتَيْ تنظيم الحقل الدينيّ وإضفاء الشرعيّة على السلطة القائمة، إلى وظيفة الرقابة المباشرة على الاختيارات الثقافيّة العامّة. وبحكم طبيعة المهامّ الموكولة إليها في البداية، والتي تجعلها في علاقة قارّة بمختلف الفئات الاجتماعيّة -أي "بمادّة" السلطة وفق الاصطلاح الخلدوني- تحوّل نفوذها الاجتماعيّ إلى نفوذ سياسيّ نقلها من موقع التبعيّة إلى موقع الاستقلال. فكان أن تجرّأت على فرض إملاءاتها على السلطة - وعلى المجتمع- وفق تصوّرها "المؤسّسيّ" للدين".
وأنهى الأستاذ فيصل شلّوف (تونس) فعاليّات اليوم الأوّل من الندوة بمداخلة عنوانها: "المؤسّسة الدينيّة بين سلطتيْ الديني والسياسي: بحث في تشكّل ''مؤسّسة التشريع في الإسلام''"؛ فقد لاحظ المحاضِر أنّه "مع اختلاف تمثّل المسلمين لمضامين النصّ الإلهي ظهرت المذاهب الفقهيّة وتنوّعت الفهوم واختلفت طرق استنباط الأحكام، في علاقة بمتطلبات الواقع، فكان ظهور "مؤسّسة التشريع في الإسلام" مرتبطا بمسألة السلطة بمفهومَيْها الديني والسياسي، ولعلّ ذلك ما أكسبها طابعا إشكاليّا، أسبابه: مرجعيّة، تتمثّل في أن السلطة الدينيّة لا يمكن أن تعرّف إلاّ من خلال مصدرها الإلهي، وعمليّة تتمثّل في كيفيّة اكتساب تلك السلطة وجودها في حياة المسلمين، وفي ذلك تساؤل عن الآليّات التي يمكن أن ينتقل عن طريقها الغيبي إلى دنيوي، من خلال استنباط الأحكام وتطبيقها، وعن المؤثّرات المختلفة التي تتدخّل في إنتاج الصورة العامّـة لـ "مؤسسة التشريع في الإسلام" من داخل سلطتَيْ الديني والسياسي".
في اليوم الثاني من الندوة، تناول الأستاذ احميدة النيفر (تونس) بالدرس في مداخلته موضوع "المسجد الجامع: قراءة في عناصر التأسيس"؛ ففي تقديره أنّ "المسجد الجامع" ظلّ" منذ البداية وطوال قرون البناءَ الاجتماعي الثقافي المركزي الأوّل في الاجتماع الإسلامي، وأنّه نتيجة طبيعته تلك قد عرف أطواراً وتحوّلات عديدة آخرها ما نشاهده اليوم من حضور له بارز، وإن بأشكال مختلفة في المشهد الاجتماعي و السياسي العربي و الإسلامي".
وفضلا عن ذلك، حدّد الأستاذ النيفر القيم التي ساهم المسجد الجامع في تكريسها في مجال الفرد والمجال العامّ منذ تأسيسه، مثل العبادة والاجتماع والتفاوض وتشكّل الهويّة والإيمان بالمصير المشترك... إلخ. ودرس أيضا طبيعة المشروع الذي سعى إلى تكريسه المسجد الجامع في السياق التأسيسي وفيما أمكن الإبقاء عليه في العصور التالية. وسعى المحاضِر إلى الإجابة عن السؤال التالي: "كيف ينبغي التعاطي مع هذه المؤسّسة، لنحدّد له الدور الذي تستدعيه عناصر الرسوخ فيه، والذي يقتضيه المسار الحضاري المعاصر مع ما يتميّز به من مظاهر التحوّل والتغيير؟".
وفي السياق ذاته، درس الأستاذ منير السعيداني (تونس) "المؤسّسة المسجديّة في زمن عاصف: ملاحظات ميدانيّة في الحالة التونسيّة''. وقد سعى في ورقته "إلى الاستجابة إلى حاجتين اثنتين لهما صلة وثيقة بتجديد النظر في المؤسّسة في الإسلام على ضوء مكاسب العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة المعاصرة. تتمثّل أولى الحاجتين في ضرورة الخروج من نمط الأبحاث والدراسات التي تعتني بالمؤسّسة في الإسلام أو المؤسّسة الإسلامية في مداها الكبير والشامل (الخلافة، الإفتاء، القضاء، المؤسّسة الفقهية،...) مخترقة للجغرافيا وعابرة للتاريخ، حيث ننزل ما أمكن إلى المحلّي والجزئيّ والمصغّر، وحتى المُفرد لما في ذلك من امتناع عن التعميم ومراعاة للخصوصيّات وانتباه للتفاصيل. أما ثاني الحاجتين، فتتمثل في ضرورة الكفّ عن النظر الآحاديّ إلى العلاقة بين المؤسّسة وبيئتها الحاضنة، حيث نبني تحليلاً يراعي تبادلهما التأثير والتأثّر تَبُادُلاً قَلِقًا ومُتَقَلْقِلاً في الاتّجاهين معًا". وقدّر أنّ تحديده للمؤسّسة المسجديّة حالةً دراسيةً يستجيبُ إلى الحاجتين، خاصّة وأنّه التزم في معالجته لها من منظور علم الاجتماع بمراعاة جملة من المحدّدات النظريّة والمفهوميّة والمنهجيّة التالية: فعلى الصعيد النظري اعتُبرت المؤسّسة المسجديّة اليومَ واحداً من أهم مراكز تبادل الفعل والانفعال بين الحقل الديني وبقيّة الحقول الاجتماعية في سياق هذه السيرورات المتعاقبة من التَّدْيِينِ والعَلْمَنَةِ وإِعَادَةِ التَّدْيِينِ التي تشهدها جملة المظاهر العامّة والخاصّة لحياة المُسلمين منذ عصر النهضة الحديثة. أمّا على الصعيد المفهومي، فإنّ المؤسّسة المذكورة لم تُعتبر بناءً ناجزًا، بل هي تشابكٌ من سيرورات التأسيس والهدم وإعادة التأسيس؛ أي بوصفها كياناً اجتماعياً تاريخيّ البناء، دائم التأرجُح بين الاستحكام المؤسّسي في التصوّر المثالي (القرآني الفقهي مثلا) والتهلهل الفعلي في الواقع العملي (التعبُّدِيّ الطقُوسِيّ أو الإيديولوجيّ الحَرَكِيّ مثلا) على مستويات التنظيم والموارد والفعل والآثار... وفي المستوى المنهجي اعتُبرت المتابعة العيانية الشاهدة اللصيقة لاستحالات المؤسّسة من جهة والتسجيل الحيّ لمقول الفاعلين الاجتماعين ذوي الشأن من جهة أخرى ضماناً منهجياً كافياً لاستجلاء ما يقوم في المؤسّسة وفي محيطها سواءً بسواءٍ من جدل بين التفاعلات الاجتماعية التي تنتج الاجتماعي، وتعيد إنتاجه والتقعيد النسقيّ الذي يُهيْكل البِنْيَات ويرسّخها".
وتناولت الأستاذة هدى بحروني (تونس) بالدرس موضوع "المؤسّسة الدينيّة بين المقدّس والدنيوي: مقام أبي زمعة البلوي أنموذجا"؛ فقد بيّنت "أنّ مقام أبي زمعة البلوي مؤسّسة دينيّة ذات قيمة مائزة في حياة القيروانيّين؛ فهي كأيّ مكان مقدّس تمثّل سرّة الكون بالنسبة إليهم. وعلى الرغم من انحسار دورها وتراجعه اليوم بحكم تبدّل العقليات وتأثير الانفتاح الحضاري وانتشار التعليم واتساع مساحة الحريّات، فإنّها مازالت تنهض بوظائف مقدّسة ودنيويّة في المجال العامّ. فعبرها يسترجع القيروانيّ المسلم العصر الذهبيّ المقدّس للمسلمين ويتماهى مع الجسد النبويّ الخارق وباحتوائه لجسد حلاّق الرسول يضحي مكّة أخرى يطوف في رحابها المسلمون في كلّ سنة عند الاحتفال بالمولد النبوي. وإلى جانب هذه الرمزيّة الدينيّة المقدّسة يلعب المقام دورا دنيويا متعدّد الوجوه، فهو معلم أثري ومحضن لذاكرة جماعيّة وقبلة سياحيّة نشيطة. وفيه أيضا تقام طقوس العبور في مناسبات اجتماعية عديدة كالختان وعقد القران وغيرها. وسعت إلى الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن أن تتحوّل هذه المؤسّسة الدينيّة وغيرها في ظل الأوضاع الحضارية الراهنة إلى مساهم في إرساء ثقافة حوار الأديان؟".
أمّا الأستاذ فيصل سعد (تونس)، فقد شارك بمداخلة عنوانها: "مؤسّسة الحسبة في الإسلام: جدل النصّ والواقع''؛ إذ اثار فيها قضيّة التنازع حول مؤسّسة قديمة من مؤسّسات المجتمع الإسلاميّ تسعى إلى الاستمرار دون الرغبة في التجدّد، هي مؤسّسة الحسبة بين النصوص التأسيسيّة ( قرآن وسنّة) التي تستمدّ منها شرعيّتها - وهي في التطوّع أدخل منها في التكليف المؤسّس له تاريخيّا وإلى عموم الخطاب أقرب ولفروض الكفاية بلغة الفقهاء ألصق- وإكراهات دولة الخلافة الإسلاميّة ومقتضيات الاجتماع الإنسانيّ . ومن ثمّ ترتسم في هذه المؤسّسة دائرة الصراع بين الأطراف المتنازعة عليها من حيث الشرعيّة ومختلف الوظائف التي ظلّت تنهض بها. ثمّ تساءلت المداخلة عن مدى كفاية الدور الذي يمكن أن تضطلع به اليوم بوجود المؤسّسات الحديثة التي تنازعها المشروعيّة والوظائف، إن لم نقل تفتكّها منها.
واختار الأستاذ عبد الباسط الغابري (تونس) أن يعالج في مداخلته موضوع: "المؤسّسة الزيتونيّة والإصلاح''؛ فقد رأى أنّ الحديث عن المؤسّسة الزيتونيّة وتقييم الدور الذي يمكن أن تضطلع به يقتضي "تأسيسا معرفيّا نقطة ارتكازه قراءة تاريخيّة واعية منذ محاولات الإصلاح الأولى إلى يومنا هذا. فقد عرفت الزيتونة محاولات إصلاحيّة متلاحقة منذ سنة 1898 تاريخ انعقاد لجنة الإصلاح الأولى لمناقشة المقترحات التي قدّمها لويس ماشويل Louis Machouel إلى سنة 1950 تاريخ تأسيس لجنة صوت الطالب الزيتوني... وإذا كان مشروع توحيد التعليم التونسي سنة 1958 الذي صاغه المتفقّد الفرنسي جان دوبياس Jean Debiesse، ثم بعث كلية الشريعة في الستينيات، فجامعة الزيتونة في التسعينيات قد تضمّن رغبة في بعث مؤسّسات عصرية، فإنّ الأحداث اللاحقة لا سيما بعد ما يُسمّى ب"الربيع العربي" قد كشفت هشاشة ذلك التصوّر وسطحيته".
وبناء على ما سبق، اعتبر الأستاذ الغابري "أنّ تفعيل دور المؤسّسة الزيتونيّة يستدعي التساؤل من جديد حول الوظائف التي يمكن أن تضطلع بها في هذا العصر، وإعادة قراءة تاريخ السياسة الثقافية التونسيّة والعربيّة والمؤسّسة الزيتونيّة خاصة للتعلّم من الأخطاء، والشروع في إصلاح ديني يكون مدخلاً لتنوير فلسفي يُفضي إلى إصلاح ثقافي شامل".
واختتمت الأستاذة أسماء نويرة (تونس) أشغال الجلسة الأخيرة للندوة بمداخلة عنوانها "المؤسّسة الدينيّة والدولة الوطنيّة في تونس''، حيث تفحّصت في مداخلتها "مآل المؤسسة الدينية التقليدية بعد الاستقلال في إطار مشروع بناء الدولة الوطنية القائم على التوحيد والعقلنة والعلمنة، وهو ما اقتضى إعادة هيكلة المجال الديني عبر تفكيك المؤسّسة الدينيّة. فالمشروع "التحديثي" البورقيبي للدولة والمجتمع يمرّ "حتما" عبر ما هو ديني لأنّ الحداثة – كما تمّ تمثّــلها في تلك الفترة – تفترض تراجع كلّ ما هو ديني لترك المجال للقيم الحديثة. وطرحت الحداثة التي تتماهى مع التقدّم والازدهار الثقافي والاجتماعي في مقابل التقليد الذي يتماهى مع الجمود والتخلّف. ولفهم ما حدث للمؤسّسة الدينيّة، وما تأتّى عنه من سلبيّات أو إيجابيّات لابدّ من تجاوز الأفكار المسبقة والصور النمطيّة، حتّى يتسنّى لنا اليوم التفكير بعمق في مخارج للأزمات التي نعيشها اليوم".
وانتهت فعاليّات هذه الندوة العلميّة الدوليّة بتوزيع شهادات تقدير على جميع المشاركين.