ندوة: "الموروث الديني وأسئلة الراهن"
فئة: أنشطة سابقة
احتضنت العاصمة المصريّة القاهرة يوم 29 آذار/مارس 2014 ندوةً علميّةً دوليّة بعنوان: "الموروث الديني وأسئلة الراهن" نظّمتها مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث بالتعاون مع مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي. وقد شارك عدد من الأساتذة الجامعيّين والباحثين في تقديم عدد من المداخلات وفي الاستماع إلى جملة من الأسئلة والملاحظات والتعليقات في جلستًيْ النقاش.
في الجلسة العلميّة الصباحيّة التي أدارها الأستاذ أحمد سالم، قدّم المستشار عبد الجواد ياسين ورقة بعنوان: "في الدين والحداثة: المعضلة النظريّة"، حيث درس فيها بعمق إشكاليّة العلاقة بين الدين والحداثة. وكان أساس بحثه قائماً على ضرورة التمييز بين الدين والتديّن والديانة. ذلك أنّ الدين، داخل النطاق التوحيدي مثلا، هو المطلق المتعالي. أمّا التديّن فهو ممارسة الدين في العالم وداخل الاجتماع. وتمثّل الديانة بنية خطابيّة تكوّنت بفعل التديّن في سياق اجتماعي وجغرافي خاصّ. وقد نبّه المستشار عبد الجواد ياسين إلى أنّ المعضلة النظريّة التي واجهت الدين مدارها على ما تقوم به المؤسّسة الدينيّة من إضافة التديّن إلى بنية المطلق فارضة بذلك سلطة قمعيّة على الذوات الفرديّة. وشدّد المحاضر على أنّ الوعي المتزايد بالفردانيّة أسهم في تكريس التعدّديّة كمبدإ أساسي داخل المجتمع والدولة. ومن ثَمّ كُرّسَتْ فكرة الإكراه الحصري الذي تمارسه الديانة. وتمّت الإشارة في آخر المداخلة إلى أنّ تصاعد الإسلام السياسي هو ظاهرة غير نهائيّة؛ أي إنّها لا تعكس حالة انتصار. فعند هابرماس تلعب الحداثة دورَها في تفسير الظاهرة، إذ قال: "إنّ الظهور الجديد للدين هو ردّ فعل تجاه الأزمة التي أنتجتها الحداثة". وهذه الفكرة لا تزال، على ما يبدو، سائدة داخل المجال العربي المعاصر.
وقدّم الدكتور محمّد حمزة ورقة بحثيّة بعنوان:"في تحصين الموروث الديني". وكان منطلقه في هذا العمل التنبيه إلى أنّ الموروث الديني يشكّل بحقّ معضلة "بسبب رفض الاعتراف بحضور التاريخ فيه وأثره عليه، على الرغم من كون هذا الرفض لم يمنع من اختراق روح المساءلة والنقد مجال "الموروث الدينيّ" اختراقاً عميقاً، مثّل وجه حرج حقيقيّ للمؤسّسة الدينيّة قديما وصولاً إلى العصر الحديث". وقد قدّر الدكتور محمّد حمزة أنّ ما يقيم البرهان على حقيقة التحصين المشار إليه، وتحديداً في المجال الإسلامي، هو ما فُرض على أهل الإيمان من وجوب اتّباع توجيهات الديانة لما توفّره من أجوبة عن أسئلة البدايات والدنيويّات والأخرويّات. ثمّ إنّ هذه الأجوبة كانت بيد فئة من علماء الدين استأثرت بصلاحيّات تأويل النصّ الديني والتصرّف في الموروث بحسب شواغل أهل العصر. ثمّ درس المحاضر تشكّل الموروث الديني وذلك ببيان تاريخيّته وتنوّعه. ولعلّ أهمّ فكرة ساقها المؤلّف ههنا هي أنّ "هذا الموروث كان عقيدة متوهجة قبل أن يصير موروثاً، كما كان وحيا فيه تفاعل بين الواقع والسماء وسعي صادق للإجابة عن الأقضية المستحدثة. لم ينشأ مكتمل المعالم وتبلورت عناصره التي تكفلت الذاكرة بنقلها في ظل ثقافة شفوية مهيمنة، ولم يخل هذا النقل من عمليات الحذف والانتقاء والإضافة قبل أن تنصهر هذه العناصر وتنهض علوماً بيّنة المعالم". وفي محور آخر عيّن المحاضر وجوه التحصين وأدواته، وفي مقدّمة تلك الأدوات ذكر ترويج المؤسّسة الدينيّة لمقالة ثبات النصّ القرآني، وما يستتبع ذلك من قول بثبات المعنى المستفاد منه. ومن الأدوات المستعملة أيضا في هذا التحصين هي تأويل النصّ على نحو يسود فيه الفهم الرسمي له مقابل إقصاء ما سواه من المواقف المخالفة له. ووُظّفَتْ أداة أخرى في هذا الغرض تتمثّل في تطويع المفاهيم وأسلمتها. وبذلك يصبح نصّ المصحف مثلا مشتملاً على القيم الحديثة مثل الحريّة. وخصّص الأستاذ حمزة القسم الأخير من مداخلته لتفكيك بنيان الحصانة، وذلك بالكشف عن الاستراتيجيّة التي اتّبعها الخطاب الديني في تحصين الموروث، مثل التعويل على الحجاج والإقناع وتغذية المتخيّل الجمعي. وبناء على ما سبق، انتهى المحاضر إلى القول بأنّه لا مناص للفكر الإسلامي المعاصر من أن يفكّر بحقّ في قضاياه مسترشداً في ذلك بالمناهج الحديثة والمعاصرة، مثل منهج تحليل الخطاب ومن قبيل الدراسات الجندريّة.
وكان مدار ورقة الدكتور حسن حنفي على موضوع مهمّ هو "عقائد بلا حدود"؛ فهو يرى أنّ "الموروث الديني وأسئلة الراهن" غرض يحمل همّه الجميع. وهذا الموروث هو عند التدبّر موروثان: أحدهما موروث دافعت عنه السلطة وذلك منذ الأمويّين وإلى الآن، في حقول معرفيّة شتّى، مثل الفلسفة وأصول الفقه. أمّا الموروث الآخر، فهو موروث المعارضة. إنّه موروث قليل الحجم، وهو غير مرئيّ ولكنّه يصارع من أجل البقاء وفرض الوجود في مواجهة السلطة القائمة. وهنا نظر الدكتور حنفي في عدّة موروثات إسلاميّة، مثل الموروث الكلامي{ مبحث الذات والصفات أو مبحث العدل} وموروث أصول الفقه {إعطاء الأولويّة في التشريع للنصّ القرآني أو قلب مصادر التشريع ومنح الأولويّة في ذلك الاجتهاد} والموروث النقلي {وهو المسيطر والمؤثّر في وسائل الإعلام والمجتمع}. وخلُص المحاضر إلى القول بأنّ المطلب الملحّ الآن يختزله السؤال التالي: هل يمكن التحوّل موروث النصّ وموروث السلطة إلى موروث عقليّ كان بحوزة العرب والمسلمين ولكنّه هُمّش، إذ لا بدّ من المعادلة بين الكفّتيْن في مدى زمنيّ قد يستغرق جيلاً أو جيليْن، مع ضرورة العمل على تحويل الموروث إلى فكر. وعندئذ يمكن القيام بنقده. وهذا التمشّي المنهجيّ والاختيار المعرفي هو الذي قامت به ألمانيا مثلا.
وختمت الدكتورة هالة فؤاد فعاليّات الجلسة العلميّة الصباحيّة بمداخلة عنوانها: "قراءة في نصوص التدوين الأولى للتصوّف". وأهمّ ما جاء في ورقتها هو الإشارة إلى أنّ مقالة نشأة التصوّف بعيداً عن السلطة ينبغي إعادة النظر فيها. ثمّ إنّ تدوين التصوّف تمّ في آخر القرن الثالث الهجري/التاسع للميلاد. إذ كان الصوفيّ يتصوّر نفسه وارثا للوحي، والوحي نفسه كان شفاهيّا، وهو ما يعني أنّ الكتابة، في نظر الصوفيّة، هي شكل من أشكال الموت، باعتبار أنّ المتصوّف هو مجدّد لفهم الوحي وحريص على استمراره. وقد طرحت الدكتورة هالة فؤاد سؤالاً كالتالي: هل التدوين هو محاولة لإحلال مهادنة مع الفقهاء أم محاولة لفرض سلطة الفقهاء المنتصرين للسلف؟ ودَعَتْ صاحبة الورقة إلى قراءة الموروث الديني للبحث عن فهمٍ ما، ويمكن أن نترك هذا الموروث يتكشّف بعبارة هايدغر، وهذا ما يعني الدعوة إلى قراءته بشكل يتحرّر معه من سطوة تصوّرات مهيمنة عليه، إذ البشر يصنعون المعنى، ولكن من منّا يصنع المعنى النهائيّ؟
وفي الجلسة العلميّة المسائيّة التي أدارها الأستاذ محمّد حمزة، قدّم الدكتور خزعل الماجدي ورقة بحثيّة تحت عنوان: "العود الأبديّ في الدين ومخاطر الوقوف بوجه حركة التاريخ"، وفيها عيّن المقصود بالعود الأبديّ على نحو ما يشفّ عنه قوله: "هو طقسٌ ديني، في الأساس، ينفذه الشخص أو الجماعة المتدينة لكي ينقطع مسرى التاريخ المتواتر ويعود إلى التاريخ الأسطوري أو إلى الأبد الأزلي الغائر في الزمان الأبعد، حيث كانت بداية الخليقة أو بداية الأحداث المقدّسة". وبيّن الدكتور الماجدي أنّ الأديان التوحيديّة اخترعت سبلاً جديدة لتحمّل التاريخ، في محاولة منها وضع صيغة جديدة في التعامل مع الأبد والتاريخ. ومن أبرز هذه السبل هو "تحمّل الألم". ونبّه المحاضر إلى أنّ الحقل الوجودي أو الأنطولوجي للعود الأبدي يتناقض مع الشأن اللاّهوتي. وضبط بعد ذلك كيفيّات تحوّل المكان المدنّس إلى مكان مقدّس، مثل التطويب {قراءة كلمات إلهيّة في مكان معيّن} وتقديم القرابين والرفع والإضاءة والمركزيّة. ثمّ درس الدكتور الماجدي إجراءات العود الأبديّ في الدين للوقوف بوجه التاريخ، وتتمثّل خاصّة في: النماذج البدئيّة واستعادة الأسطورة والرؤيا الإسكاتولوجيّة وتكرار طقوس الأعياد الدوريّة والاعتراف والقدريّة وتأبيد التاريخ. ولعلّ تنبيه شدّد عليه الدكتور خزعل الماجدي هو أنّ التمسّك بالعود الأبديّ قد يحوّله إلى إيديولوجيا تشرّع للأصوليّة المقيتة. فمقالة العود الأبدي المؤدلجة تنطوي على مخاطر كبيرة. ومردّ ذلك إلى أنّ الأصوليّة هي الحضن الجامع للثالوث التالي: الفشل والخوف والعنف.
وعالج الدكتور أحمد سالم في ورقته العلاقة بين الإسلام والسياسة من خلال مداخلة عنوانها "الإسلام والسياسة: انقطاع أم تواصل؟"؛ فقد بيّن الباحث المحاضر أنّ العلاقة بين الدين والسياسة قائمة على أساس من الاتّصال المكين على امتداد التا ريخ الإسلامي إلى سقوط الخلافة سنة 1924. واختلفت النخب الفكريّة والسياسيّة في تحديد شكل الحكم الأمثل لحال المسلمين وواقعهم وخاصّة في عصر النهضة العربيّة الحديثة خلال القرن التاسع عشر {أعمال الطهطاوي وخير الدين والأفغاني وأديب إسحاق ومحمّد عبده وفرح أنطون وقاسم أمين}. وأفضى دفاع محمّد عبده عن الاتصال بين الديني والسياسي في الإسلام من جهة، وإدانته لنظام الخلافة من جهة أخرى إلى بروز ضرب من الاشتباه الدلالي في تفسير موقفه. وهنا رأى الدكتور أحمد سالم أنّه "وبسبب هذا الاشتباه والتعدد الدلالي لخطابه يمكن أن نفسّر كيف خرج من عباءة الإمام كلّ رموز التيارات الفكرية المصرية، سواء أكانت ليبرالية أم إصلاحية أم سلفية من أمثال لطفى السيد، وقاسم أمين، وسعد زغلول، ورشيد رضا". وبالمقابل درس المحاضر الخلفيّة الفكريّة التي استند إليها كلّ من علي عبد الرازق وأمين الخولي في قولهما بضرورة الفصل بين الدين والسياسة { المقابلة هنا بين حقائق الدين الثابتة وأحوال السياسة المتغيّرة}. ثمّ نظر المحاضر في مستندات ممثّلي مختلف المواقف في العلاقة بين الدين والسياسة. وانتهى إلى الاستنتاج التالي:"وقد ترتّب عل عدم الالتقاء بين أصحاب مسار الانفصال وأصحاب مسار الاتصال أن أصبح كلّ منهم يشكّل عقيدة مغلقة على نفسه{...} لقد تمّ ترسيخ حالة من الفصام النكد بين النخب الليبرالية والعلمانية من جهة وبين النخب الإصلاحية والسلفيّة من جهة أخرى". ومن أجل فهم هذه المفارقة في تاريخ الفكر الإسلامي، تساءل الدكتور أحمد سالم عن مدى وجود نظام للحكم للإسلام؟ وهل شيّد الإسلام نظام دولة تامّة الأركان؟ وهذا ما أحوج المحاضر إلى تفحّص الأحداث التاريخيّة السياسيّة بدءاً من واقعة سقيفة بني ساعدة{ سنة 11هـ} ومروراً بعهد الخلافة الراشدة وبالخلافة الأمويّة{انتصارهم لمقالة الجبر لتشريع الاستبداد فضلاً عن تفضيل العرب على الموالي والعجم} وصولا إلى الخلافة العبّاسيّة. والحاصل هو دعوة الباحث إلى تأسيس لأنظمة في الحكم تستفيد حقّا من موروث الفكر السياسي الغربي من أجل منح الإنسان العربي المعاصر حقوقه وصيانة كرامته، فضلا عن الحاجة إلى إعادة النظر في العلاقة بين الدين والدولة.
وقدّم الدكتور طه جابر العلواني ورقة {تلاها بالنيابة عنه الباحث محمّد الدخاخني} بعنوان: "سؤال الحاكميّة: من حاكميّة إلهيّة إلى حاكميّة قرآنيّة". وجوهر هذه المداخلة هو دراسة العلاقة بين الخطاب المقدّس {ممثّلا في القرآن} ووسائط معرفيّة بشريّة {تمثّلها علوم المقاصد}. ورأى المحاضر أنّ القراءة المسكوت عنها بخصوص هذه العلاقة هي: كيف ينظر القرآن الكريم إلى علوم المقاصد؟ هنا درس صاحب الورقة صورة الحاكميّة في اليهوديّة والمسيحيّة. ثمّ نظر في صورة الحاكميّة داخل "الشريعة الخاتمة"، وهي الإسلام. وخصّص المحور الموالي في مداخلته لبيان كيف أنّ القرآن هو أنموذج تطبيقي لحاكميّة القرآن. وهنا عرض المحاضر لرأيَيْن في موضوع الحاكميّة القرآنيّة مثّلهما كلّ من المفكّر السوداني أبي القاسم حاج حمد والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان.
واختتم الدكتور سامح إسماعيل فعاليّات هذه الندوة بمداخلة مدارها على "حركة الإصلاح واستلهام الموروث"، إذ درس فيها نماذج من محاولات التجديد التي قام بها الأزهر في مجاليْ الفكر والفلسفة، وهذا ما يظهر في البعثات العلميّة إلى الخارج وفي الأخذ بمقولات الفلسفة الغربيّة. فقد كان "التجديد في مجمله محاولة لتقديم مقاربة معرفية بين واقعين بينهما مسافة زمنية طويلة، من خلال نقل المعاني الصحيحة لنصوص الدين، وإحياء الفهم المعاصر لها، ومدّ الجسور المعرفيّة بينها وبين التراث". وقدّم المحاضر أنموذجاً من هذا المسار التجديدي يمثّله الأفغاني في دعوته إلى تأسيس الجامعة الإسلاميّة وفي موقفه من القضاء والقدر {سقوطه في مقالة الكسب الأشعريّ}. وعلى صعيد آخر، بيّن المحاضر أنّ محمّد عبده حاول جذب الماضي إلى بؤرة الحاضر، وليس العكس. فكان خيار الماضي هو الغالب عنده، إذ لم يدرك محدوديّة المرجعيّة التي استند إليها؛ أي إنّه لم يستوعب القطيعة التي قامت بها الحداثة مع المعرفة السائدة في العصور الوسطى. ويعبّر ذلك كلّه عن حقيقة الارتباك الذي وقع فيه رجال الإصلاح في العصر الحديث من التجديد والإحياء. وبيّن الدكتور سامح إسماعيل كيف أنّ رشيد رضا يمثّل "إفرازاً طبيعيّاً للتيه في دوائر التراث والارتداد سريعا من منطقة التجديد إلى مساحات الماضي المحدودة". ووضّح المحاضر بشكل جيّد ودقيق كيف أنّ مفكّري الإصلاح سعوا إلى إيجاد معادلة صعبةتجمع بين رغبتهم في التحرّر من قيود الماضي وأغلاله من ناحية، والتفاعل مع شواغل الحاضر ومتغيّراته دون الانسلاخ عن الماضي من ناحية أخرى. وأفضت هذه المعادلة حسب الباحث إلى فقدان الوعي بالتاريخ وإلى إنكار قوانين التطوّر الاجتماعي. لذا ليس هناك من حلّ لتجاوز هذا الإشكال سوى التعويل على التاريخيّة أداةً معرفيّة لتحرير العقل الجمعي من كلّ أشكال التنميط ومن أسر التراث الماضوي.