حوار حول كتاب فتحي المسكيني "الإيمان الحر أو ما بعد الملة، مباحث في فلسفة الدّين"
فئة: أنشطة سابقة
انتظم في إطار فعاليّات معرض تونس الدّولي للكتاب 2019، يوم الجمعة 12 أبريل الجاري، اللّقاء الحواري الذي نظّمته مؤمنون بلا حدود وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، حول كتاب فتحي المسكيني "الإيمان الحر أو ما بعد الملّة، مباحث في فلسفة الدّين"، الصّادر عن مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، وأدار الأستاذ نادر الحمّامي اللّقاء، الذي كان مناسبة لالتقاء الكاتب بجمهور القرّاء والباحثين، واستعراض أهمّ القضايا والمسائل الفكريّة التي يطرحها الكتاب، عبر التّفاعل المباشر.
وقد أشار المسكيني في ردّه حول سؤال الإيمان والإلحاد، إلى أنّ الملاحدة تاريخيّا، هم أولئك الذين كانوا يؤمنون بشيء آخر، وأنّ "الإنسان ما قبل الحديث لم يكن يستطيع العودة إلى بيته وهو لا يملك إلهاً في جيبه"، معتبراً أنّ كلّ الثّقافات التّقليديّة كانت تحتاج إلى سرديّات عقائديّة من أجل أن تطمئن، وأنّها لذلك تبني أسس انتمائها إلى الملّة.
وفي سياق العلاقة بين المعرفة والاعتقاد، واعتبار الإيمان الحر سقفاً أعلى من حرّية الضّمير، وتخليصاً للدّين من مشروعيّة الموت، ورفعاً للوصاية الأخرويّة عن الإيمان ذاته؛ أجاب المسكيني بأنّ الإيمان الحر هو تحرّر من الموت، وأنّ الثّقافة لو استطاعت أن تحرّر النّاس من موتهم لما كانوا سيخوضون في أيّ نقاش دينيّ، قائلاً "إنّنا مجهّزون بشكل أو بآخر بموتنا الخاص"، وأنّ النّاس سيكونون في حاجة في المستقبل إلى من يواصل تجهيزهم بحقل من التّعالي الذي يخفّف عليهم وطأة موتهم، وأنّ ذلك هو الدّور الذي يقوم به رجل الدّين، ولا ينافسه على القيام به الفيلسوف، على اعتبار أنّ الفلسفة ظهرت في إطار تقليد لا يملك حقل التّعالي الدّيني الذي يؤسّس لنوع من جغرافية الرّوح، وأنّها، إلى جانب كونها وثنيّة، فهي نوع من إيطيقا السّعادة، وأنّ الفيلسوف لا يؤمن إلاّ بقدر ما يكون سعيداً، أي في صداقة معيّنة مع إمكانيّة الآلهة التي سيظلّ يتشبّه بها ما استطاع.
واعتبر المسكيني، في ردّه حول العلاقة بين الإيمان الحرّ ومبدأ التّسامح، أن التّسامح إمكان قائم بين جميع المتديّنين، وأنّه ليس تنازلاً خطيراً لمتديّن أن يتسامح مع متديّن آخر، ولكنّه اعتبر أنّ التّسامح نوع من الغطرسة المستترة بالأخلاق، وأنّ المؤمن الحر لا يحتاج لأنّ يواصل الاحتماء بمظلّة التّسامح حتى يكون مستحقّاً لكونه إنساناً؛ قائلاً "إنّ الإيمان الحر هو إعادة إمكانيّة الإيمان إلى النّاس حتى يختاروا أنفسهم"؛ أي أن يختاروا معنى موتهم دون المرور بأيّ نوع من أجهزة الملّة.
وبخصوص مسألة الإيمان الفردي، بما هو كسر للتّقاليد القديمة حول مفهوم الإيمان، أثار المسكيني إشكاليّة ارتباط المؤمن بأفق حضارة تدّعي أنّها كتبت قصّة أصليّة ورسمت للإنسان ما عليه أن يؤمن به، وما عليه أن يكفر به، قائلاً إنّ الشّعوب اليوم لم يعد ممكناً لها أن تواصل انتظار نفسها في مجرّد علاقة المريد بالشّيخ، حتّى يمكنها أن تفوز بنوع معيّن من التّقوى، وأكّد على وجوب أن تتحرّر من تلك العلاقة القديمة، وأن تؤسّس لحرّية الضّمير، وبيّن أنّ الطّريق إلى ذلك يكون عبر التّأريخ، على اعتبار أنّ " كل ما نستطيع أن نؤرّخ له، يمكننا أن نتحرّر منه". ولكنّه أشار بعمق إلى الصّعوبة التي يواجهها التّأريخ لمسألة الضّمير، حتّى أنّ المسيحيّين أنفسهم لم يجدوا الطّريقة المناسبة للتّعبير عنها، رغم أنّ حرّية الضّمير مفهوم مسيحي في أصله. وبيّن في المقابل، أنّ العرب منذ القصيدة الجاهليّة يستعملون كلمة "ضمير"، ولكن هذه الكلمة انسحبت تماماً بعد الحدث القرآني، ليصبح مفهوم الضّمير يعني دخيلة المرء وسريرته وطويّته، ولا يدخل إلى الاستعمال إلاّ في النّقاش النّحوي (الضّمير في اللّغة)، ولم يؤسّس بالتّالي لمسألة الإيمان الفردي، وخلص المسكيني إلى القول "نحن نؤرّخ بشكل سيّء عن أنفسنا" ولا يمكن للعرب أن يجدوا أنفسهم في مفهوم لا يستطيعون التّأريخ له.
وفي بيان مفهوم "الإيمان بلا حدود" الذي يقابل به في الكتاب مفهوم "الإيمان الحرّ"، أكّد المسكيني أنّ الحدود جزء من طبيعة البشر، وأنّ الإنسان محدود بالزّمان والمكان، وأنّ الأجساد محدودة بالفناء والموت، وقال إنّ الحدود مفهوم قرآني قوي جدّاً وخطير، وماثل في المدوّنة المقدّسة، لذلك فهو يعود باستمرار، عبر استدعاء أشكاله القديمة المرتبطة بالملّة، وأشار في سياق ذلك إلى إصرار جزء من المسلمين المعاصرين على إحياء دولة الملّة، رغم أنّ ابن خلدون اعتبر أنّ دولة الملّة انتهت بانتهاء مُضر، وعبّر المسكيني عن ذلك قائلاً: "إنّهم ينبثقون كالبراكين الحمقاء ليقولوا إنّنا لا نزال في عمق الملّة". واعتبر أنّ النّاس ما لم يستعيدوا الحقّ في اختيار أنفسهم وهويّاتهم وإيمانهم وأجسادهم ولذّتهم، بعيداً عن الإكراه الدّيني الذي تمارسه عليهم دولة الملّة، فإنّهم سوف يواصلون الخضوع للتّاريخ الدّيني الذي يُمارَس عليهم، ولن يتحقّق لديهم مفهوم "الإيمان الحرّ".
وحول تأسّس الحق في اختيار الذّات بكل حرّية "ما بعد الملّة"، خارج الأفق الأخلاقي الجمعوي، قال المسكيني إنّ الشّعوب لا تحتاج إلى الحقائق نفسها دائماً، وإنّها لا تؤرّخ بالطّريقة نفسها، وبيّن أنّ الانتماء إلى "ما بعد الملّة" لا يعني القطع مع التّاريخ الرّوحي والأخلاقي، فهو ينتقل مع الإنسان أينما حلّ، وأنّ النّاس يُنصّبون تاريخهم الخاص في الحضارات التي ينتقلون إليها، ويتعاملون من خلاله، ويتوارثون همومه ومشاكله، ويواصلون الإحساس به والحنين إليه. وأزاح المسكيني إمكانيّة التّعارض التي يوحي بها الانتماء إلى ما بعد الملّة مع الإبقاء على نوع من الانتماء الرّوحي والأخلاقي إليها، قائلاً: "يمكن أن نواصل الانتماء إلى الملّة، باعتبارها قريتنا الرّوحيّة، ولكن بعد أن نختار أنفسنا"، وأكّد على أهمّية أن "يترجم الإنسان نفسه" في أيّ واقع جديد ينخرط فيه، وأن يعيد ترتيب العلاقة مع مصادر ذاته، حتى يكون قادراً على الانتماء إلى أفق الإنسانيّة. وخلص إلى اعتبار أنّ الإيمان الحرّ هو الفرصة الأخيرة للانخراط في "نادي" الإنسانيّة.