محاضرة رامون كراسفوكل: "بنية المعرفة في الجامعات الغربية: قراءة في البراديغمات الإثنية"
فئة: أنشطة سابقة
وصف عالم الاجتماع الأمريكي رامون كراسفوكل (Ramon Grosfolguel) البنية المعرفية للغرب بالعنصرية، واعتبرها حصيلة لاستعماره الطويل، وأضاف أن هذه البنية تبلورت فيما أسماه بالجامعات "المتمركزة حول الغرب"، وليس الجامعات الغربية، لقيامها على خلفية إقصائية لا تعبر عن العالم كما هو، في تعدده واختلافه، بل فقط عن الرؤية الغربية فيه.
وجاء، في محاضرة ألقاها عالم الاجتماع وأستاذ الدراسات الإثنية، باللغة الإنجليزية يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول)، بمقر مؤسسة مؤمنون بلا حدود في إطار فعاليات "صالون جدل الثقافي"، بعنوان "بنية المعرفة في الجامعات الغربية: قراءة في البراديغمات الإثنية"، سيرها وترجمها الباحث المغربي إلياس بوزغاية، أن الجامعات المتمركزة حول الغرب تعطي الامتياز للرجل الغربي الأبيض، كما أردف أنها تنتمي لخمس دول فقط هي: أمريكا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا وإيطاليا.
فالبنية المعرفية المتأتية من هذه الدول هي ما يسوغ منطق الكونية (العولمة)، ذلك أن القائمين على هذه الجامعات يعتقدون أهلية تطبيق نظرياتهم وعلومهم في جميع السياقات وعلى كل الدول، مع أن هذه الدول الخمس لا تشكل سوى 12 في المائة من دول العالم، وهو أمر مثير للسخرية، إذ تدرس كل شعوب العالم المعرفة التي أنتجها أشخاص بعينهم ينتمون إلى نفس النسق المعرفي المهيمن حاليا.
فكيف وصلنا إلى هذه النتيجة، أي إلى هذه العنصرية؟ يتساءل الأستاذ كراسفوكل الذي يرى أن عنصرية الغرب تقوم على احتقار جميع المعارف الأخرى المنبعثة من ثقافات مغايرة، بل إنها عنصرية مزدوجة إثنية وجنسية أيضا؛ إثنية لتمركزها حول الغرب ورفضها لما ينتجه غيره، وجنسية لأنها مقتصرة على العنصر الذكوري دون النسوي.
وفي تحليله لهذه النتيجة، يرى أنها "راجعة إلى تراكمات تاريخية وسياسية"، لذلك عاد إلى القرن 15م وبالضبط إلى تاريخ سقوط الأندلس، لأنه يشكل بداية التوسع الأوربي. وبالتالي يجب استحضار هذه الواقعة التاريخية بجد وليس برومانسية وبكاء على الأطلال كما يفعل العرب اليوم، فطريقة غزو الأندلس، يقول الأستاذ كراسفوكل، اعتمدت نفس الآليات الموظفة في الغزو الحديث، وأبشعها هو التطهير بشقيه؛ العرقي والمعرفي.
فالتطهير العرقي قام على الإبادة الممنهجة لسكان المناطق المستعمرة، فيما خضع الناجين منه، لنظام "التجنيد الإجباري للعمل"، حيث يجبرون على خدمة المسيحيين كما يخضع تدينهم لمراقبة أرباب العمل. أما التطهير المعرفي، فتجسد في الإحراق المنهجي للمكتبات الإسلامية، خصوصا مكتبة غرناطة ومكتبة قرطبة التي كانت تحوي أزيد من نصف مليون كتاب، في الوقت الذي كانت فيه أكبر مكتبة مسيحية لا يتجاوز عدد محتوياتها ألف كتاب.
وإلى جانب هذين النوعين من التطهير، يضاف نوع ثالث حصل في أوربا، وكان من ضحاياه النساء الأصليات بسبب اتهامهن بالتعاطي للسحر.
من جانب آخر، فإن تجربة الغرب في أمريكا اللاتينية تعطي صورة مماثلة لما وقع في الأندلس. فالقرن 15م وبعد تسعة أيام فقط من سقوط غرناطة؛ أي يوم 11 يناير 1492، حصل لقاء بين كريستوف كولومبس وملكة قشتالة تمخض عنه الترخيص له للخروج في رحلة استكشافية من أجل الذهب. وفي أكتوبر من العام نفسه، وصل كولومبس إلى أمريكا وكان أول ما كتب في مذكراته عن السكان الأصليين أن "هؤلاء الناس بدون دين". فكانت هذه العبارة – يوضح كراسفوكل- لحظة للتمييز العرقي، وأنها خلقت جدلا في إسبانيا دام 60 عاما.
وهنا لفت الأستاذ المحاضر الانتباه إلى أن الحضارة في هذه المنطقة شأنها في ذلك شأن الحضارتين الإسلامية والصينية، كان لها شأن عظيم قبل أن يطمسها الغرب، ويقدم سكانها كحفاة عراة ويتسلقون الأشجار كالقردة، ولعل التقويم الزمني الذي كانت تعتمده حضارة "المايا" بالمكسيك خير دليل على مدى الرقي العلمي الذي وصلته هذه الحضارة في علوم الفلك والتوقعات. غير أن المخيلة المسيحية، يضيف الأستاذ في مداخلته، تعتبر كل من ليس له دين ليس له روح، وهو بالتالي مجرد حيوان، بل تطور السؤال حول طبيعة سكان أمريكا الأصليين، إن كانوا بشرا أم حيوانات، حتى إن ملك إسبانيا كلف المحكمة التابعة للكنيسة بالحسم في الموضوع. فانتشر حينها القول الذي شاع فيما بعد والقائل بأنهم بشر لكن يحتاجون لمن يحضرهم، وهذا سيمر طبعا عبر تنصيرهم.
وفي تطور لاحق، تعزز الخطاب العنصري المبني على الحضارة بخطاب عنصري آخر مبني على البيولوجيا عبر الترويج لافتقادهم للخصوصيات الإنسانية. وهنا أيضا قام الإنسان الغربي، كما فعل في الأندلس، بإحراق وسائل الكتابة لدى السكان الأصليين وطرائقهم في تحفيظ الكتب، كما ازدهر العمل الإجباري وصار يجلب من يقوم به من إفريقيا.
وفي أواسط القرن 17م أطلق ديكارت "الكوجيطو" الشهير "أنا أفكر إذن أنا موجود" فصارت الأنا، هي الأنا الغربية التي لا دين لها ولا عرق، لتعبر عن الفكر والفلسفة القائمة في الغرب على العقلانية المتحدية لمعرفة الله، فصارت البنية المعرفية معبرة عن التمييز العنصري، تمجد الغرب وتحتقر كل ما يأتي من خارجه. ثم جاءت مرحلة تحول الكوجيطو الديكارتي من آلية التفكير كجوهر للوجود إلى آلية الغزو التي حكمت النزعة الإمبريالية، ثم أخيراً إلى آلية الإبادة فصار المبدأ على شاكلة "أنا أبيد إذن أنا موجود". وهذا ما أكده الدعم الغربي حديثا للحكومات الديكتاتورية في العالم وما رافقها من قتل وصل إلى إبادة مليون شخص في أندونيسيا سنة 1945 على إثر انقلاب عسكري مدعوم من جهاز المخابرات الأمريكية (CIA)
كما توقف عند أول جامعة أُسست في ألمانيا، والتي صارت تزود المتعلمين في كل الربوع بمنتجاتها القائمة على البنية المعرفية العنصرية، والتي رغم ذلك تدعي العالمية في كل شيء، بل حتى المدلول اللغوي للعالمية ينطق (UNIVERSAL) أي يقوم على جذر (UNI) الذي يعني "الوحدة بدون تعدد" في إشارة للغرب، وليس على (PLURIVERSAL) وهو المفهوم الذي يقترحه المحاضر من أجل تجاوز حالة الهيمنة الاستعمارية المعرفية المتمركزة حول الغرب والانتقال إلى نموذج معرفي يعترف بالتعدد والاختلاف الذي يستوعب كل الأنساق الثقافية.