سهرة فكرية حوارية : في التصوّف والفنّ
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقر مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجمعية الدّراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، الثلاثاء 28 يونيو الجاري، سهرة فكرية حوارية تحت عنوان "في التصوّف والفن" شارك فيها كلّ من: د. توفيق بن عامر بمحاضرة بعنوان: "التصوّف والإبداع: أيّة علاقة؟"، ودة. أمّ الزين بن شيخة المسكيني بمحاضرة بعنوان "التصوّف والفنّ المعاصر".
وبعد الترحيب بالضيوف والحضور، افتتح د. نادر الحمامي كلمته بتقديم فكرة عن موضوع المحاضرتين، والجوامع بينهما، مع تقديم موجز لكلا المتدخلين. ثم انطلق د. توفيق بن عامر في ضبط العلاقة بين التصوف والإبداع الفني وبدأ بتحديد ماهية كلّ منهما؛ فأشار إلى تركّز تعريفات الفن على اختلافها حول مفهومين أساسيين؛ مفهوم عام هو ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة من ابتكارات صناعية أو معنوية، ومفهوم خاص يتمثل في ملكة الحس والشعور المنتجة للجمال المرئي واللامرئي، كما أشار إلى تركّز تعريفات التصوف على اختلافها على مفهومين رئيسين؛ مفهوم عام يتمثل في سعي الحياة الروحية للاتصال بالمطلق وجودا وعدما، ومفهوم خاص يتمثل في كونه ضربا من التعبد الباطني يسعى إلى ربط علاقة مع الذات الإلهية.
وبدأ انطلاقا من ذلك، في تحليل العلاقة بين التصوف والإبداع الفني، من خلال رصد العلاقة التاريخية القديمة بينهما، وأشار إلى أن تفسيرها حديث، وانتهى إلى تأكيد تلازمهما، لأنهما نشآ في محضن واحد، وهو المحضن الديني. وذكر أمثلة كثيرة عن ذلك التلازم بدءا من النقوش والرسومات القديمة والطقوس الدينية التي يعد الرقص من أهمها، والملاحم الشعرية التي تمجد الآلهة، والموسيقى المقدسة... ووقف عند التصوف الإسلامي وبين أنه يقوم منذ القديم على تواشج بين الفن والتصوف، وحلل في هذا السياق "رقصة التنورة" أو "المولوية" ومعانيها الجامعة بين الفن والروح الصوفية.
ولم يحصر تلك العلاقة في الجانب التاريخي الذي بيّنه، فحسب، وإنما انتقل إلى رصد العلاقة المفهومية، التي تقوم على اعتبار أن كلا المفهومين تجربة فردانية، راسخة الوجود في عالم الوجدان والروح، وأن فيهما تحرر من المدركات الحسية والمادية، ومن عالم الزمان والمكان، وذكر في سياق ذلك الملكات الجامعة بين التصوف والفن، ومنها ملكات التطهر والصفاء والتسامي، والبحث عن المطلق، إلى جانب الحس المرهف بالجمال.
وخلص من ذلك إلى رصد جامع آخر بين التصوف والإبداع الفني، يكمن فيما سمّاه العلاقة البنيوية، وقال بأنهما يشتركان في بناء يقوم على الحدس والذوق، ويميز ذلك تطابق بين الذات والموضوع، إلى جانب ما يختزنان من تجربة معيشة، حيث تتخلى الذات عن غيرها وعن ذاتها وتبني عالما من التماهي، ثم بيّن أنهما يشتركان بنيويا في الخيال، باعتباره أصل الوجود عند الصوفية، وباعتباره جزءا من قيمة العمل الفني من خلال اعتماد الرمز والغموض. ثم انتهى من ذلك إلى استنتاج أن البنية التأويلية هي أقوى رابط بين التصوف والإبداع الفني.
أما العلاقة الرابعة التي رصدها بن عامر بين التصوّف والفن، وختم بها محاضرته، فكانت العلاقة الغائية، وقدّرها في الطموح المشترك إلى إعادة تعريف الأشياء، وإلى الخلق من عدم، وإلى تجديد الرؤيا... ففي التصوف والفن نزوع مشترك إلى التحرر من العالم الخارجي بحثا عن الحقيقة الجوهرية للوجود وعن السعادة المطلقة.
وأحيلت الكلمة بعد ذلك إلى دة. أم الزين بن شيخة المسكيني التي وصفت المحاضرة بكونها دعوة مهمة إلى أن نفكّر في أرواحنا، عبر التصوّف الذي يحيل على نوع من السفر إلى باطن الإنسان وروحه وأعماقه، وتساءلت لم يُقتل المتصوّف، رغم أنه يحمل الله في جبّته؟ وخلصت من ذلك إلى التأكيد على ضرورة طرح السؤال بصفة دائمة حول أنفسنا في علاقة بالموروث الرمزي العميق، وواصلت التساؤل حول إحداثيات هذا الموروث ونقطة انطلاقه المفترضة.
وانطلقت من ثم في تحليل العلاقة التي يقيمها عنوان المحاضرة بين التصوّف من جهة والفن المعاصر من جهة أخرى، مؤكدة على أهمية التصوف، باعتباره تجربة تخترق الزمن باتجاه المطلق واللامحدود، واعتمدت على هذه الفكرة الأساسية في تقديم العديد من اللوحات الفنية لرسّامين عالميين وتحليلها بشكل سيميولوجي يسهّل قراءة أبعادها الفنية والزمنية التي تتواشج مع مبدأ التصوّف بصيغه المختلفة وتمثيلاته المحيلة على ما تسميه ''أعماق الروح الإنسانية''، والذي يتشكّل صوفيا في مفهوم الحدس، الذي يُرجع إليه العديد من الفنانين فرادة الأعمال الفنية وطرافتها. واستخلصت أن اللوحة الفنية ليست فضاء بقدر ما هي زمان. ووصفت ما كتبه المتصوّفة من نصوص باللوحات الفنية وبالشعر من جهة اقترابها من تلك الأعماق الإنسانية قائلة: ''إنها تمثّل ما يمكن أن نسمّيه الفن الخالص''.
ودعت بعد ذلك إلى تجديد أفكارنا حول التصوّف في علاقته بالفن المعاصر، باعتبار إمكانيات القراءة التي يوفّرها فهم التصوّف لأعمال الفن المعاصر، بغض النظر عن نسبة العمل الفني والحضارة التي ينتمي إليها سواء كان شرقيا أو غربيا، وسواء كان صاحب العمل الفني مؤمنا أو ملحدا أو لادينيا. ورأت ضرورة التحرر مما سمّته ''الانفعالات الأيديولوجية'' في قراءة الأعمال الفنية، حتى يقع التخلص من كل أشكال التعتيم على ''أساليب الروحنة الجميلة''، ووصفت الأمر بالرهان الأساسي من رهانات التفكير المعاصر. وذهبت في تحليل ذلك إلى رصد خطر السجن الهووي الذي يضع فيه المسلمون أنفسهم من خلال تمسكهم بالدفاع الانفعالي عما يعتقدون أنه هوية، والحال أنه في الحقيقة مجرد قوالب جاهزة ونمطية من الماضي، وطبّقت هذا التمشي في اختيار النماذج التي أقامت عليها مداخلتها، وهي لوحات فنية لفنانين غربيين حديثين قامت بعرضها على الشاشة وقراءتها، قائلة: ''أنا ذاكرتي تبدأ من القرن العشرين وما قبل ذلك لا يهمني".
وأعقبت المحاضرتين مداخلات من قبل الحضور، اهتمت بالتعليق على بعض ما ورد فيهما من نقاط، فتمت الإشارة إلى عمق العلاقة بين الفن والتصوف من جهة وبين التصوف والفن من جهة أخرى، على أنها ''علاقة قلب'' يلد فيها التصوّف فنانا ويلد فيها الفن متصوّفا، وتم تقديم أمثلة عن ذلك، ونذكر من بينها أن المتصوّف هو الذي بحث في الخط العربي، فكان التجريد في الفن الإسلامي، وعبر الذكر والتمتمات والبحث عن اسم الله الخفي أوجد اللحن والإيقاع وتوصّل إلى الموسيقى... وهكذا، فمن صلب المتصوّف ولد الفنّان. وفي الفن المعاصر حاول الرسامون الذهاب في التجريد والخيال إلى أقصاه، وبحثوا في الأصول الأوّلية للفن، انطلاقا من الذات الفنيّة ووصلوا إلى التصوّف، وهكذا انتهى التصوّف إلى الفن قديما، وينتهي الفن إلى التصوّف حديثا من جهتين مختلفتين.