قراءة علمية حول كتاب : "فلسفة جيل دولوز: عن الوجود والاختلاف" لعادل حدجامي
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بصالون جدل الثقافي بالرباط ندوة علمية عبارة عن مدارسة لكتاب "فلسفة جيل دولوز: عن الوجود والاختلاف" لمؤلفه، شارك فيها بالإضافة إلى صاحب الكتاب الأستاذ مصطفى العارف، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، والأستاذ محمد الشيكر، الأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط. قدم هذا الأخير، ورقة تحمل عنوان "عادل حدجامي وفلسفة جيل دولوز: سؤال الاختلاف ومقتضيات النسق"، استهلها بالإشارة إلى أن اسم جيل دولوز كفيلسوف عملاق، تكرس عبر أطروحته الجامعية المركزية "الاختلاف والتكرار" (1968)، كما قيّضَ له، عبر هذا المنجز الفلسفي المائز، أن يرسي دعائم فلسفة جديدة، يحل فيها اختلاف محل الهوية والتطابق، ويسد فيها التكرار مسد عمل السلب وجدل التناقض. ولم يكتفِ دولوز، حسب الشيكر، في أطروحته الرائدة بمباشرة سؤال الكينونة بما هي اختلاف ومغايرة، بل تعاطى فيها مع الاختلاف كاختلاف أو بوصفه اختلافا في ذاته، بمنأى عن كل اختزال للأيس (الوجود) في منطق الذات وفي عمل السلب (النفي)، وبمعزل أيضا، عن ميتافيزيقا التمثيل أو التمثل Représentation.
وبهذا الصنيع، مثلت أطروحة "الاختلاف والتكرار" عتبة تدشينية لم يعد فيها الموجود منظوراً إليه في حِلٍّ من قبضة التطابق، وبمنأى عن كل تصفيد ماهوي لاختلافه الأنطولوجي الدائب فحسب، بل تحرر فيها الكلام عن سؤال الوجود من كل تمثل ميتافيزيقي، تماما كما تحرر التصوير الفني الحديث من كل تشخيصية مبسترة أو من كل علاقة ميمية أو إسنادية مع الواقع الفيزيقي.
ومثلما غدا الفن الحديث، عبر تحلله من أحابيل التمثيل الميمي الفج، فناً تجريدياً يستنكف عن التشخيص ويمُجُّه، فكذلك أضحى الفكر الفلسفي الذي تشيده أطروحة "الاختلاف والتكرار" فكراً بلا صورة، ونظراً فلسفيا غفلا من كل تمثيل، أي فكراً ونظراً فلسفيين لا يدلفان من الوجود في ماهيته أو بما هو وجود في ذاته، بل باعتباره صيرورة تشظ ومغايرة ومباينة واختلاف "تتبخر فيها هوية الموضوع المرئي بوصفه ذاتاً رائية".
وأطروحة عادل حدجامي "فلسفة جيل دولوز، عن الوجود والاختلاف"، حسب محمد الشيكر، هي أطروحة على الأطروحة، إذ إنها تتغيا المضي بهذه الأطروحة الدولوزية إلى ممكناتها القصوى. ومثلا عرفت أطروحة دولوز احتفاء وتلقياً مشهودين، فكذلك شهدت أطروحة حدجامي احتفاء واحتفالا قمينين بها وبصاحبها. ولعل أدنى منقبة من مناقبها هي أن وُفقَت في الاقتراب من فكر دولوز المتأبي والمعتاص على التمثيل، بيد أن أجَلَّ مناقبها هي أنها نجحت، بلا منازع، في تبيئة فلسفة دولوز في لسان الضاد، بقدر نجاحها في جمع أمشاج تلك الفلسفة وتركيب معالمها الكارتوغرافية الشتتية في نظيمة فلسفية متسقة تؤسس الموجود والمعرفة والقيم عند دولوز على مناط الاختلاف، وتعمل على استخلاص نظرية أنطولوجية تعانق السطوح والشطوط وتحتفي باستراتيجيات المحايثة والمغايرة والصيرورة والحدث، كما تتلمس عناصر نظرية معرفية تتخفف من سولبسية الكوجيطو وتتحرر من ميتافيزيقا التمثل بكل معجمها الأفلاطوني القائم على مفاهيم الجوهر والماهية والهوية والحقيقة والتطابق، وتستخلص أخيرا ما يضارع نظرية قيمية مدارها على الحياة كطاقة وقوة توكيد، في حركيتها وتوثبها وعبر آلاتها الراغبة وصيرورتها الدينامية الخلاقة بمعزل عن النزعات الإنسية المكرسة وعن كل إثيقا وثوقية ومتعالية.
وهكذا، فمثلما حاول دولوز في كتاباته التاريخية السالفة على أطروحة "الاختلاف والتكرار" أن يقبض على أفكار وأنظار هيوم ونتشه وكانط وبرجسون وبروست عبر توليفات نظرية صارمة، فكذلك يرى الشيكر أنه تأتى لعادل حدجامي بحصافة متبدية، أن يقبض على فكر دولوز المتأبي والمتفلت والزلق في سياق ما يسميه نتشه "بالنظيمة العضوية العليا"، أو ما ينعته جيل دولوز نفسه في مقاربته لفلسفة نتشه "باللوحة أو الخطاطة الإجمالية". إننا، بحق، يقول الشيكر، إزاء نظيمة أو خطاطة تركيبية متميزة تستحق، بعد طقوس الاحتفاء، أن نصيخ السمع إليها، وأن ندلف من مؤدياتها ومتعلقاتها على النحو الأوفى.
أما المتدخل الثاني، مصطفى العارف، فقد قدم ورقة تحت عنوان "دولوز عربيا" تساءل كيف يمكننا أن نقرأ دولوز؟ هذا السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على كل قارئ يريد اقتحام نصوص الفيلسوف؟ فكيف يمكن أن نكتب عنه بالأحرى؟
لقد وجب التنويه أولا، حسب العارف، بمكانة الكتاب في المكتبة العربية، ذلك أنه من الكتب القليلة جدا عن الفيلسوف الفرنسي، وهذا إن دل على شيء، فإنما يحيل على الصعوبات المنهجية والفكرية التي تواجه القارئ العربي خصوصاً عندما يهم بمطالعة كتب دولوز. إن الكتابات حول فيلسوفنا، يقول مصطفى العارف، قليلة جدا لدرجة يمكن أن نعدها على رؤوس الأصابع، هذا إضافة إلى أن أغلب ما كُتب عنه كان بدافع تعليمي ليس إلا، أضف إلى كل هذا أن السواد الأعظم من الترجمات الموجودة تفتقر لعدة منهجية وفلسفية ولغوية. فأين نحن من هذا المفكر أمام كتاب عادل حدجامي؟
يعتبر الباحث كتاب عادل حدجامي، أهم ما تم تأليفه وخطته الأيادي حول الفيلسوف، هذا إن لم نقل أنه الأهم بإطلاق، يكفي أنه حاز جائزتين الأولى عربية والثانية وطنية، الكتاب إذاً حجة لنفسه، فهو ليس في حاجة لمدحه. كما، يقول العارف، أننا لا نصبو ههنا للمدح والإطراء والملء، بقدر ما نهدف لتأسيس الفراغ والانفصال.
يعترف الكاتب أنه وجد صعوبة كبيرة في تقديم الكتاب، فهو كتاب ملغوم مثل فيلسوفنا، مفاهيم عديدة ومتعددة، أطروحات متداخلة ومتشابكة، ثم كتابة منهجية جد منظمة تشبه إلى حد ما منهجياً ما كتبه إسبينوزا في كتابه الإيتيقا.
هكذا يمكن تقسيم الكتاب إلى قسمين أساسيين؛ على الرغم من أن الكاتب قسمه إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بالمرجعيات الفلسفية يحضر فيه برغسون بمفاهيمه: الحدس والديمومة والوجود، ثم إسبينوزا والإيتيقا، وليبنتز ومفاهيم الطي ثم كانط ومفاهيم الحس والملكة، ثم قسم ثانٍ يضم فلسفة دولوز ومفاهيمه الأساسية التي أبدعها. ما يلاحظ بهذا الصدد هو غياب نوعي لديكارت وهيغل، رغم أن دولوز كان من أشد الخصوم لفلسفتهما. الجواب عن هذا الغياب، في نظر العارف، هو أن كل كتابات دولوز هي في صلبها ضرب للهيغيلية والديكارتية دونما الإشارة إليهما مباشرة.
إنه على الرغم من الصعوبات الجمة التي يطرحها متن دولوز، إن لغوياً أو فكريا ثم مفاهيمياً، ، يشعر القارئ، حسب مصطفى العارف، أن الكاتب بذل مجهوداً مضنياً وكبيراً في تبيئة المفاهيم الدولوزية عربياً، فنجد مثلا وليس حصراً: المفهوم، والجذمور، والسيمولاكر، والبساط، والتكرار، والاختلاف، والحدث... وهي مفاهيم جلها تم تعريبه، والآخر بقي على نطقه الفرنسي، لكن حدجامي من شدة ضبطه وتمكنه من المتن الدولوزي، استطاع أن يجعل دَيْنك المفاهيم مبيئة في التداول العربي، دليل العارف في ذلك هو السلاسة اللغوية التي كُتب بها الكتاب، إن الأمر أشبه برواية فلسفية، قد يبدو التشبيه مجحفاً وتنقيصاً من قيمة الكتاب، لكنه في واقع أمره يجعل الكتاب حدثاً بالمعنى الدولوزي للكلمة.
لقد استطاع حدجامي أن يجعل دولوز عربياً، أن ينطقه لغة عربية فصحى سلسة، يكاد القارئ أمام هذا المقام أن يتيه في النص لغوياً، فيتناسى أنه حول فيلسوف قال عنه فوكو إن عصرنا سيكون دولوزياً، ضارباً عرض الحائط كل الصعوبات التي يمكن أن تنال من الباحث في متن جيل دولوز.