قراءة علمية في كتاب: "بين مثابتين منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد" للدكتور محمد مساعد
فئة: أنشطة سابقة
نظم قسم قراءات بمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ندوة لمداسة كتاب الراحل الدكتور محمد مساعد، أستاذ الفلسفة الإسلامية بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس، "بين مثابتين" (منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد)، هو عنوان الكتاب الذي نقدمه للقراء، لمؤلفه المرحوم محمد مساعد. والكتاب صادر عن دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2014. شارك فيها الأستاذان: الدكتور محمد الأشقر أستاذ الفلسفة بجامعة المولى إسماعيل، والدكتور محمد مزوز أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس.
قدم هذا الأخير ورقة تحت عنوان بين مثابتين، بين قراءتين، افتتحها بخاتمة الكتاب التي يقول فيها محمد مساعد، مؤلف الكتاب موضوع القراءة، : "ومهما يكن، فنحن لا نزعم اكتشاف الحقيقة، إذ كل همّنا إتاحة الفرصة لاشتغال بعض الفرضيات بهدف التمرس، على أقل تقدير، على ممارسة العمل الفلسفي. وإذا لم يكن لهذا العمل سوى هذه الفضيلة فتلك، في رأينا، أمّ الفضائل".
وبما أن الأمر يتعلق هاهنا، يقول محمد مزوز، بمجرد فرضيات وليس بحقائق نهائية، يحق لنا أن نعاود النظر ـ أو نستأنفه أحيانا ـ في بعضٍ من تلك الفرضيات التي اشتغل عليها صديقنا وزميلنا المرحوم محمد مساعد.
هكذا سيقف مزوز ثلاث وقفات تحليلية-نقدية بخصوص إعادة النظر أو استئنافه، تتعلق أولاها بالفصل الأول المعنون ب"الغزالي والحضور الأصولي عند ابن رشد"، وهو الفصل المخصص ل"بيان طبيعة الحضور الغزالي لدى ابن رشد، في الكتابات السابقة على مرحلتي التلاخيص و"الفاصل الغزالي"، وهو الفصل الذي وقف فيه الباحث بالدراسة والتحليل على ثلاثة كتب لأبي الوليد بن رشد هي: "مختصر المستصفى"، و"المختصر في المنطق"، و"بداية المجتهد". يقول الباحث عن كيفية حضور الغزالي في "مختصر المستصفى"، ما يلي: "سيكتب ابن رشد مختصر "المستصفى"، إذن، في خضم هذا الحماس الدافق للغزالي، وبالضبط سنة 552هـ، وهي فترة ولاية "عبد المؤمن" المؤسس الحق للدولة الموحدية بعد المهدي بن تومرت. لذلك، يبدو أنه لم يكن ممكنا لأبي الوليد الشاب أن يتجاهل هذا الحماس الغض والاهتمام الفائق في حق "حجة الإسلام"، مما شأنه أن يدفع به إلى اختيار "مستصفى" أبي حامد، دون غيره من النصوص الأصولية، إذ لم يكن ولا لواحد من واضعي تلك النصوص الموقع/الوقع ذاته الذي يحتله الغزالي لدى الخاصة وأصحاب السلطان، وبين صفوف العامة أيضا من خلال هؤلاء وأولئك" .
أما الوقفة الثانية، فتتعلق بالفصل الثاني المعنون ب "الغزالي والحضور الفلسفي عند ابن رشد"، وهو فصل يناقش حضور الغزالي في المختصرات الطبيعية والميتافيزيقة، وكذا الحضور الفلسفي الكلي للغزالي لدى ابن رشد. تقوم قراءة حضور الغزالي في المختصرات الطبيعية والميتافيزيقية بالنسبة إلى المرحوم محمد مساعد على فرضية يبسط خطوطها العريضة على الشكل التالي: "نحن نذهب إلى فرضية.. مؤداها أن الغزالي هو أحد الدوافع الأساسية لانتصار ابن رشد لأرسطو، ومن ثم، لأرسطية أبي الوليد ككل، لكن ليس في الجوامع دون المختصرات، وإنما فيهما معا، من منطلق أنهما نمط واحد من الكتابة لدى ابن رشد، مما يجعله أحد المكونات المركزية للفلسفة الرشدية في هذه المرحلة، بل وفي ما يليها من مراحل، إذ سينشر الغزالي بظلاله على كل لحظات تطور المشروع الرشدي، ولو أن فيلسوف قرطبة لا يأتي على ذكره صراحة في مرحلتي التلاخيص والشروح" .
أما الوقفة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بالفصل الثالث المعنون ب"الغزالي والحضور السيكو- إيديولوجي عند ابن رشد"، وفيه يقف الباحث عند الثلاثية الشهيرة: فصل المقال، ومناهج الأدلة، وتهافت التهافت. فما هي طبيعة حضور الغزالي في الفصل، والثلاثية عموما؟ يقول الباحث: "سيكون "الفصل".. إيهاما بفلسفية الغزالي وعلميته، لدرء خطره على الفلسفة، أو نقول إنه سيكون حيلة عملية لخدمة غرض فلسفي يكتسي بهما الكتاب ككل طابعه السيكو- إيديولوجي، فالغزالي ذو سلطة سيكو- إيديولوجية، لا فلسفية" (ص: 293). كتاب "فصل المقال"، إذن، عبارة عن "حيلة عملية"، ساقها ابن رشد ـ في نظر الباحث ـ للقضاء على سلطة الغزالي "من خلال الحد مما تحظى به من رواج ونفوذ، لاسيما بين العامة وكل من لم يبلغ مبلغ البرهان" .
من جهته افتتح الدكتور محمد الأشقر قراءته بالإشارة إلى أنه سنوات بعد صدور مقال الأستاذ جمال الدين العلوي المعنون (الغزالي والخطاب الفلسفي في الغرب الإسلامي: الغزالي وتشكل الخطاب الفلسفي لابن رشد)، والذي بسط بين ثناياه وجهة نظره حول حدود وطبيعة حضور الغزالي لدى فلاسفة الغرب الإسلامي عموما وابن رشد خصوصا، سينبري الأستاذ محمد مساعد (وهو أحد تلامذته) لتعميق النظر في هذه المسألة وفق رؤية ألفيناها جديدة ما تلبث تتقاطع مع سابقتها في أمر حتى تنفصل عنها في أمور.
مدفوعا بهاجس رشدي مقتضاه البحث في كيفية تشكل الفلسفة الرشدية، يقول محمد لشقر، حاول الأستاذ محمد مساعد تقديم فهم جديد للعلاقة بين ابن رشد والغزالي عبر الكشف عن الحيز الذي يشغله أبو حامد كما والتأثير الذي يمارسه كيفا على الفلسفة الرشدية.
خلافا لتلك الصورة التراثية التي تجعل الحوار بين حجة الإسلام وفيلسوف قرطبة مواجهة بين فيلسوف ومتكلم، يذهب الأستاذ محمد مساعد إلى أنها كانت مواجهة بين فيلسوفين، وإلى أن المجال الفعلي للقاء الرجلين كان هو تاريخ الفلسفة. إننا إذاً أمام فهم جديد لمنزلة أبي حامد ضمن بنية وتطور وتشكل فلسفة أبي الوليد، وهو فهم يقر بإسهام غزالي إيجابي وفعلي في تحديد معالم الخطاب الفلسفي الرشدي.
لقد كان للحضور الفلسفي الغزالي دور مهم في تشكيل معالم الإشراقة الأولى لفلسفة ابن رشد بما هي انحياز وولاء لأرسطو، وهي السمة التي ستلازم المشروع الفلسفي الرشدي إلى لحظة كماله. إن الكشف عن هذا الحضور وطبيعته يتيح في تصور الأستاذ محمد مساعد إعادة النظر في كيفية تشكل الفلسفة الرشدية بوصفها قولا متميزا ضمن مسار الفلسفة الإسلامية أولا وفي سياق المناخ الشامل للأرسطية والمشائية بوجه عام.
يصادر الأستاذ محمد مساعد، حسب محمد لشقر، في دراسته للعلاقة بين ابن رشد والغزالي على أمرين اثنين، أولهما حصل حوله شبه إجماع في أوساط دارسي الفلسفة والفكر الإسلاميين مفاده أن هناك حضورا واضحا ومباشرا للغزالية في الرشدية، وثانيهما وهو من الاجتهادات الخاصة بالأستاذ جمال الدين العلوي مؤداه أن هذا الحضور يمتد من لحظة ميلاد المشروع الرشدي إلى لحظة اكتماله.
يسود إجماع شبه تام في أوساط الباحثين حول حضور توجيه إيديولوجي خضعت له فلسفة الشارح الأكبر تحت تأثير حجة الإسلام، وهو الأمر الذي يكشفه الصراع الشهير بين الرجلين لا سيما في التهافتين، كما يسود شبه إجماع على الحضور الأصولي لأبي حامد في فكر قاضي قرطبة خاصة مع إقدام أبي الوليد على اختصار مستصفى الغزالي. لكن ما لم يكن من الممكن الانتصار له، وهذا أحد أبرز معالم جدة رؤية الأستاذ محمد مساعد للإسهام الغزالي في الفلسفة الرشدية، هو القول بالحضور الفلسفي الغزالي في المشروع الرشدي.
يرى الأستاذ محمد مساعد أنه لا يجب فهم حضور الغزالي في الرشدية في شقه الإيديولوجي فقط، لأن هناك عمقا فلسفيا للعلاقة بين الرجلين، بل إن هذا الحضور يتوزع على عدة مستويات منها الأصولي، البسيكو/إيديولوجي، والفلسفي. تحضر هذه المستويات ضمنا أو صراحة في كل لحظة من لحظات المسار الفكري لابن رشد، لكن مع هيمنة واحد منها في كل لحظة، ففي المختصرات يحتل الحضور الأصولي الواجهة، بينما في فترة التلاخيص يتصدر الحضور الفلسفي غيره من المستويات، في حين يسود الفاصل الغزالي الحضور البسيكو ـ إيديولوجي.