قراءة علمية في كتاب: "فلسفة الفعل" للدكتور حسان الباهي
فئة: أنشطة سابقة
شهدت كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل بالقنيطرة بتاريخ 18 أكتوبر 2016، أمسية فلسفية، تمت فيها مدارسة لكتاب "فلسفة الفعل" للدكتور حسان الباهي، ساهم فيها كل من الدكتور محمد فرحان، والدكتور يوسف التيبس، بالإضافة إلى الدكتور حسان الباهي مؤلف الكتاب، وقد قام بتنشيط هذه الندوة الدكتور عبد النبي الحري المشرف على قسم قراءات التابع لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، التي نظمت هذا النشاط بتنسيق مع مختبر الدراسات في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.
الدكتور محمد فرحان، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن طفيل، تقدم بورقة حول الكتاب أشار فيها إلى أن الدراسات الفلسفية العربية اتجهت منذ بدايات القرن الواحد والعشرين نحو دراسة القيم وإشكالاتها في الفلسفة المعاصرة، وعلى رأسها: قيم الفعل والعمل. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الفلسفة العربية مطالبة، حسب اعتقاده، بإعادة النّظر في أشكال التفلسف التي دأبت عليها، والتي تقوم على النّقل والتّرجمة وتوثين الفكر الواحد الذي يدّعي الكونية من موقع النّزعة المركزية الغربيّة. واستحداث صيغ جديدة ترمي إلى الإمساك بسنن الإبداع الفلسفي من خلال الانخراط في المتاح الكوني والدخول معه في "علاقات حواريّة"، اعتمادا على صيغة مستجدّة في التفلسف تجد في " السؤال النقدي المسؤول" مدخلا منهجيّاً إلى تقويم فكرنا، ومدخلا أخلاقيّاً إلى تصويب أفعالنا.
هكذا اعتبر الدكتور فرحان كتاب "فلسفة الفعل، اقتران العقل النظري بالعقل العملي"، 2016، للمفكِّر المغربي حسّان الباهي تتويجاً لمشروع تأسيسي عن فلسفة الحوار وتدبير الاختلاف في الفكر والعمل معاً، والذي شهد بداياته الأولى مع كتاب: اللغة والمنطق، بحث في المفارقات، 2000، ثمّ كتاب: الحوار ومنهجيّة التّفكير النّقدي، 2004، ثمّ كتاب: جدل العلم والأخلاق، 2009، وأخيرا: كتاب: الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، حنكة الآلة أمام حكمة العقل، 2012، حيث يسعى الباهي، حسب فرحان، إلى امتلاك مشروعيّة فتح باب فلسفة الحوار والاختلاف من موقع الانتماء إلى التراث الثقافي العربي الإسلامي، واستشراف رهاناتها وتحدِّيّاتها في أفق تمرين واختبار المناهج الغربية-الفلسفة التحليلية-فيتأمل أشكال الحوار وأدوات الحجاج، إذ لا معنى للفضاء العام المشترك دون الوقوف عند تقاطعات الفضاءات الخاصّة، ولا معنى للحوار المتكافئ منهجاً وقيماً دون امتلاك قواعد تدبير الاختلاف. ويذهب الكتاب، يقول فرحان، إلى استعادة سؤال القواعد والضوابط التي من خلالها يمكن خلق فضاء عام مشترك قادر على استيعاب وجهات نظر مختلفة ومتعدِّدة تحفظ حريّة الأفراد والجماعات في الفكر والعمل؛ إذ يتوسّل الكتاب في تحقيق مبتغى الفضاء العام المشترك الذي ينبني على التّعاون في الإقناع والاقتناع بالرّبط بين القول والفعل، والنّظر والعمل؛ فالفكرة لا تكون فكرة عمليّة إلاّ إذا استندت إلى قول مسدّد وفعل محكم.
يميِّز كتاب "فلسفة الفعل"، في مقاربة إشكاليّات الفعل، التي تقوم على مفهوم الخطاب التّوجيهي بغية تغيير العالم والتّأثير فيه، في نظر فرحان، بين التّكليف والأمر. فالتّكليف يقتضي الإقناع والاقتناع على أساس العقل والالتزام، بينما الأمر يقتضي الطّاعة والتّنفيذ على أساس السّلطة والإلزام. ومن هنا، نجد، يقول محمد فرحان، أنّ تأسيس فلسفة الفعل، من خلال الكتاب، يسعى إلى استثمار الخطاب الأصولي الفقهي الذي يرى أنّ الإنسان لا يكون مكلّفاً إلاّ إذا بلغ الرّشد، وغاية الرّشد القدرة على التّمييز، والقدرة على التّمييز هي العقل؛ في الارتقاء به إلى مصاف الكونيّة بالاستناد إلى منظومة قيم إنسان أخلاقيّة وحقوقيّة. فتكريم الإنسان بالحريّة إنّما يكون على مقتضى التّكليف، لا على مقتضى الأمر. فالأمر إكراه تمارسه السّلطة مؤسّساتيّة كانت أم اجتماعيّة أم رمزيّة ثقافيّة، بينما التّكليف التزام يقوم على مقولات العقل والإرادة والقدرة التي هي غاية حدِّ الإنسان بالفاعليّة الأخلاقيّة والعمليّة؛ وحيث إنّ الأفعال محكومة من جهة التّكليف بالمقاصد، فإنّ القصديّة تشكل إحدى القضايا الأساس في كل من فلسفة اللّغة وفلسفة العقل وفلسفة الفعل. فبنفس الكيفيّة التي تطرح بها قصديّة الأقوال تطرح كذلك قصديّة الأفعال.
يغوص، بنا الكتاب كما يرى الأستاذ فرحان، في إشكالات دقيقة ترتبط بدلالات الأفعال الإنسانيّة، من خلال التمييز بين الدّوافع/ الحوافز والأسباب، ثمّة من الأفعال ما هي حركات محكومة بالحتميّة الآلية التي تأتي على مقتضى الأسباب وثمّة أفعال هي رغبات وتمنّيات...محكومة بالحرية والإرادة تأتي على مقتضى الحوافز، وهي التي تحقِّق مناط السّؤال والمسؤوليّة الأخلاقية والقانونيّة. وهذه الإشكالات تفتح الباب واسعا للتساؤلات الآتية: ما دلالة العقل أثناء الفعل؟ وما علاقة العقل بالجسد؟ وكيف يمكن التمييز بين الأفعال القصديّة وغير القصديّة؟ وما القصد قبل الفعل وأثناء الفعل والقصد الموجّه للمستقبل؟ وإذا كان القول فعلا تكلّميّاً إنجازيّاً، فكيف يمكن حدّ منطق الفعل؟ هل بمنطق القضايا أم بمنطق الأحكام؟
في هذا الصّدد، يرى الكتاب، حسب قراءة فرحان له، أنّ المنطق التقليدي دأب على وصف الحالة السكونية للعالم، وحيث إنّ العالم دينامي متحرِّك يتغيّر بالتّفاعلات التخاطبيّة وأنساق القيم المتعدِّدة في التحاور والتّداول والتّواصل الإنساني والتقني، فإنّ مركز الثقل سينتقل من الأنساق الموسّعة ومختلف المنطقيات التي اشتغلت بالتغيرات التي تطرأ العالم إلى البحث في منطق الفعل. وهذا ما يتطلّب استحضار منطق الأحكام، الذي يتميّز بالاشتغال بالأفعال عوض الأقوال، وبالخطاب الموجّه عوض الخطاب الوصفي. إذ يمكِّننا استثمار منطق الأحكام في حماية البرنامج أو المعلومات والمعطيات الخاصة بالأفراد أو في تأمين ومراقبة نظام المعلوميّات، من خلال التّرابط بين منطق الأحكام وباقي أشكال الأنساق المنطقيّة للذّكاء الصناعي الذي يقوم على الآلة والتقنيّة.
من جهته، وعلى خلاف المنحى الهرمونيطيقي الذي اتبعه فرحان في قراءته، نحا الدكتور يوسف التيبس الأستاذ بجامعة علال بن عبد الله بفاس منحى منطقيا في قراءته للكتاب قائلا إن هذا الكتاب وإن وردت في عنوانه ومتنه كلمة فلسفة مقرونة بالفعل أو بالعقل أو باللغة، فإنه ليس فلسفيا إلا بالدرجة الثانية، بل هو كتاب علمي بالدرجة الأولى: مناط ذلك، حسب التيبس، أن منطق الفعل يقتضي العديد من المرتكزات الفلسفية التي يفترض الكاتِب أن القارئ على علم بها كما هو الحال بالنسبة إلى مفاهيم الحرية والإرادة والواجب والوجوب والفعل والعقل والقوة والمسؤولية والإرادة والإنسان والذكاء... لكنه في حقيقته منطق يستوفي كل شروط العلمية المطلوبة كي يتصف بالعقلانية.
توجد مرتكزات الكتاب، حسب يوسف تيبس، في الفلسفة من حيث إنها محبة الحكمة علما أن الحكمة هي الاحتراز أو الحذر مخافة الخطأ أو الإثم، وتدبير شؤون الحياة (اليومية) بكل أبعادها: الاجتماعية، المادية، الشخصية (خوف من السقوط في مأساة)؛ والحياة اليومية مليئة بالأقوال التوجيهية. لذا نحتاج إلى بناء نماذج حجاجية قادرة على التأثير والتأثر (الفعل والترك). لذا سيعمد الكاتِب إلى كل المنطقيات التي تسعفه في ترميز قواعد الفعل، خصوصا منطق الأحكام والمنطق الموجه.
لذلك، يشبه الدكتور تيبس هذا الكتاب بقواعد لقيادة الفعل، بدل قيادة العقل لديكارت.
هكذا يشكل البابان الأولان للكتاب نوعا من التأسيس لمنطق الفعل وعرضا للجدل القائم بين وجهات النظر الخاصة بمنطقيات الفعل، هذا لا يشكل، حسب تيبس، عيبا أو نقصا في هذا النوع من المنطق؛ لأن المنطق عموما لا يحتاج إلى تعليل وضعه ومنزلته بين العلوم، بل فقط إلى تعيين مشاكله، وهو ما حاول ذ. الباهي عرضه في هذين البابين: أولا، رسم الحدود المجال المعرفي لمنطق الفعل أو الأحكام وتمييزه عن باقي أنواع المنطق والفلسفات مثل فلسفة اللغة والعقل؛ ثانيا، إبراز العوائق والمفارقات والجدالات التي يفرزها هذا المجال المعرفي الحديث.
أما الباب الثالث، فجانب تطبيقي لسابقيه، إذ يتم فيه عرض المسلمات والمبرهنات المنطقية الخاصة بمنطق الأحكام لتبيان مدى نجاعته في مجال توجيه الفعل الإنساني، وهو باب يصعب على غير المتمرس والمعتاد على الأدوات المنطقية الدخول إليه رغم المجهود الجبار الذي بذله ذ. الباهي لتبسيط الأفكار فيه.
هكذا يعتقد الدكتور تيبس أنه يمكنه أن يجازف بالقول إن الكتاب يتلخص في تحديد العلاقة بين الواجب (الأخلاق) والوجوب (اللزوم/الوجود)، أو "ما هو كائن" و"ما يجب أن يكون". وكيف يمكن للمنطق (سواء الموجه أو المنحرف أو الطبيعي...) أن يساعد على صورنة هذه العلاقة.
يشكل منطق الفعل أو الأحكام مصدرا لكل الأنساق المنطقية المعيارية التي تعالج وتصورن الواجبات والخروقات والعقوبات، لذلك يعتبر تطبيقا للمنطق على الأخلاق والقانون، إنه تحليل لبنية الخطاب المعياري (ما يجب أن يكون)، أي صورنة العلاقات المنطقية التي توجد بين المفاهيم المعيارية من قبيل الواجب والإذن والمنع.
لذلك يهدف منطق الأحكام إلى بناء نموذج صوري للخطاب المعياري المبني باللغة الطبيعية، حيث يجيب عن الأسئلة الدلالية والإبستيمولوجية المتعلقة بالأحكام المعيارية. وبذلك يسمح هذا النوع من المنطق بفحص بعض الأسئلة الإبستيمولوجية والأنطولوجية من زاوية مختلفة، أسئلة من قبيل: ما هي شروط صدق القضايا المعيارية؟ ما هي خصائص المفاهيم المعيارية؟ ما هي بنية الخطاب المعياري (الأخلاقي)؟ ...
هكذا يتعلق منطق الأحكام بتعيين الواجبات (خطاب معياري)، أي بناء نظرية المعرفة العملية في مقابل نظرية المعرفة العلمية. وحيث إن المنطق التقليدي من الدرجة الأولى (يهتم بالقضايا الخبرية فقط) والخطاب المعياري لا يتعلق بالإخبار، بل بالتوجيه (لأن هناك فرقا بين منطق الوجوب ومنطق الواجب)، وجب توسيع هذا المنطق كي يأخذ في الحسبان طبيعة هذا الخطاب: لذا نلجأ إلى المنطق الموجه العادي لتحديد درجة الواجب، وإلى نظرية العوالم الممكنة لتأويل دلالة الخطاب وإلى منطق الزمان لتحديد زمن الخطاب المعياري...
لقد تعددت أسماء منطق الأحكام (منطق الواجب أو المنطق الشرعي أو منطق الفعل) لكن تعريفه متواطئ، إنه النسق المنطقي الذي يحدد العلاقات المنطقية بين مختلف القضايا التي تحدد طبيعة الفعل.
وإجمالا يشكل هذا الكتاب، حسب قراءة يوسف تيبس، فتحا جديدا في حقل معرفي لا يستطيع سوى رجل في درجة جرأته ورصانته من اقتحامه كما عودنا في سابق كتبه، سواء المنطقية الصرفة أو الفلسفية العلمية.
أما ما ينقص هذا الكتاب بالنسبة إلى القارئ المبتدئ في هذا المجال هو قائمة المقابلات للمصطلحات المستعملة؛ لأن العديد من المفاهيم الواردة فيه جديدة والمراجع ناذرة لذا سيضطر القارئ إلى العودة إلى المراجع الأجنبية، فيعسر عليه المقابلة بين المصطلحات الأجنبية والعربية.
وأما ما يحتاجه هذا الكتاب، فتأصيل فلسفي يربط بين إشكاله والإشكالات الفلسفية السابقة عليه والمصاحبة له والناتجة عنه.
وأما ما يلزم عن هذا الكتاب، فكتب أخرى تكون عبارة عن تطبيق لتصوره وأدواته على التراث العربي الإسلامي في مجالات مخصوصة.