لقاء حواري مفتوح حول كتاب: "القراءات علماً من علوم القرآن" للأستاذ المنجي الأسود
فئة: أنشطة سابقة
انتظم بمقرّ مؤمنون بلا حدود وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، يوم الأربعاء 26 ديسمبر 2018، اللّقاء الحواري المفتوح حول كتاب "القراءات علماً من علوم القرآن" للأستاذ المنجي الأسود، بحضوره، ومشاركة الأستاذ عبد الباسط القمودي، وأدار اللّقاء الأستاذ نادر الحمامي. وقد وقع الاهتمام بمحاور أربعة ممّا اشتمل عليه الكتاب؛ بداية بالبحث في تاريخ علم القراءات، ثم مراجعة الأسس التي قام عليها، انطلاقاً من مثالي "العرضة الأخيرة" وأخبار الأحرف السبعة، وإثارة علاقة علم القراءات بالعلوم الأخرى؛ ومنها علم النّاسخ والمنسوخ، انتهاءً بعلاقة علم القراءات بالتّشريع.
وأشار نادر الحمّامي بداية، إلى أنّ كتب القراءات وكتب التّفسير وكتب النّسخ وكتب أسباب النّزول وكتب علوم اللّغة، تشكّل مباحث متداخلة ومتقاطعة وصعبة، وتتميّز بأنّها تختلف عمّا يسمّى بالدّراسات القرآنيّة؛ ذلك أنّها تنتمي أساساً إلى الإبستيمية القديمة، بينما الدّراسات القرآنية هي حديثة النّشأة، وأنّها تتعلّق جميعاً بالنص القرآني لا بالمصحف، باعتباره نصّا وإنّما بتحليل ما تعلق به من نصوص ثوان والعلاقات بين مختلف العلوم النّاشئة عن ذلك من تشريع وأحكام اجتماعيّة.
واعتبر عبد الباسط القمودي، أنّ البحث يتنزّل في سلسلة مراجعات علوم القرآن، وهي علم أسباب النزول وعلم القراءات وعلم الناسخ والمنسوخ، وأنّه يطرح الكثير من القضايا التي مثّلت محور نقاش حقيقي منذ القديم، ومنها عدد القراءات ونسبتها إلى أصحابها وتواترها ومدى صحّتها وقراءات الصّحابة والتّابعين وخط المصحف، وأكّد من ثم على أهمية البعد التّاريخي للمسألة، وبيّن أن الكتاب حاول أن يضبط مراحل تاريخ علم القراءات، بالإشارة إلى مجموعة من "المشكلات"، واعتبر أنّ الإجابة عن كل مشكلة تمثّل مرحلة من مراحل هذا العلم، وهذه المشاكل هي: مشكلة تعدّد اللّهجات والحل في التشريع للاختلاف، ومشكلة الاختلاف والحل في التّدوين، ومشكلة تعدّد القراءات المخالفة للمدوّن والمرويّ والحلّ في الاختيار، ومشكلة انفتاح الاختيار والحلّ في الحدّ من الاختيار وتكريس حد ابن مجاهد في القراءات السّبع، ومشكلة عدم الرّضا عن اختيار ابن مجاهد للقراءات السّبع والحلّ في إضفاء صفة التّواتر على القراءات العشر، وانتهى من ذلك إلى التّساؤل إلى أيّ مدى يمكن أن تمثّل هذه المشاكل التي عرضت منطلقاً لتحديد أطوار لهذا العلم؟ مرجّحا أنها أقرب إلى أن تكون أسبابا لهذا العلم من أن تكون أطواراً تاريخيّة له.
وفي ردّه عن ذلك، اعتبر المنجي الأسود أنّ كل العلوم، سواء منها الصّحيحة أو الاجتماعيّة، لم تنطلق انطلاقة جديدة إلاّ من رحم الأزمة الخانقة، مؤكّداً أنّ تاريخ العلوم يحاول البحث عن إجابات وحلول لأزماته، وبيّن في سياق ذلك انغلاق علم القراءات على المشكلات الستّ التي تمّ ذكرها، ما أدّى إلى تكفير من يشكّك في تواتر القراءات العشر، واعتبر أنّ القرآن في البداية كان حقيقة مغايرة لحقيقة القراءات التي جاءت بعد ذلك، وبيّن أنّ تلك المشكلات مرتبطة بأزمنة تقريبيّة وأنّ اعتبارها أطواراً في البحث كان ناتجاً عن بعض الصّعوبات المنهجيّة التي تواجه الاشتغال على المسألة، وقدّم بعض الأمثلة عن ذلك؛ ومنها ما يتعلّق بصعوبة تحديد الحيّز الزّمني الذي تم فيه تدوين المصاحف في عهد عثمان، وصعوبة تحديد عددها، واعتبر أنّ التّقسيم إلى أطوار متتالية كان وفق منهج الأزمات والحلول، وأنّ الأسباب التّاريخية والسّياسية هي جزء من الأطوار التي مرّ بها علم القراءات.
وتساءل الحمّامي قائلاً: هل يمكن أن نعتبر أنّ تاريخ علم القراءات هو نفسه تاريخ المصحف؟ معلّلا تساؤله باعتراف القدامى بأنّ المصحف شهد سيرة وشهد تاريخاً ما جعله متحوّلاً بعد عثمان وصولاً إلى علم القراءات بداية من القرنين الثّالث والرّابع الهجريّين، وهو ما عبّرت عنه الدّراسات القرآنيّة من أنّ المصحف بقي يتشكّل إلى حدود القرن الرابع. كما تساءل حول اعتبار نظام القراءات السّبع كما حدّده ابن مجاهد، قراراً فكريّاً حضاريّاً أم أنّه قرار سياسي؟
وحول السؤال المتعلق بتداخل تاريخ المصحف وتاريخ القراءات قال الأسود، إن الإشكال يكمن في تعدّد اللّهجات والحل في التّشريع للاختلاف، قائلاً إنّ من شرّع هو الرّسول وهو قارئ القرآن الأوّل، بينما المصحف ولد فيما بعد، واعتبر أنّ الوقوف على تاريخ المصحف من شأنه أن يُسقط الفترة الأولى لتاريخ القرآن عموماً، على أساس أن تاريخ القراءات فيه جزء مهم يتعلق بالشّفوي، واعتبر انطلاقاً من ذلك أنّ تاريخ ما هو مكتوب منفصل عن تاريخ ما هو شفوي.
وأثار عبد الباسط القمّودي بعد ذلك مسألة الاختيار بين القراءات، معتبراً أنّ القراءة المنسوبة إلى الرّسول اعتبرت شاذّة، وأنّ الاختيار قد تجاوزها واستقر على غيرها، بدوافع مختلفة أغلبها سياسي، وقد عرض في هذا السّياق ما تعلّق بحرق المصاحف من أجل التّخلّص من مظاهر الاختلاف التي يمكن أن تحفظها المصاحف غير الرّسمية مقارنة بالمصحف الرّسمي، وما انجرّ عن ذلك من تبعات سياسيّة.
وتفاعل المنجي الأسود مع ما سبق بالتّساؤل، قائلا: هل كان للجنة عثمان وعي مسبق بمفهوم الاختيار؟ وماهي القراءة التي اختاروها وعلى أيّ أسس تمّ اختيارها؟ وقال إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تبقى معلّقة "كنقطة الاستفهام"، فلا أحد من القدامى ولا من الدّارسين المعاصرين استطاع الإجابة عنه.
واعتبر الحمامي أنّ الحرج من تعدّد القراءات هو ما أنتج تبرير الاختلافات بالاستناد إلى الأحاديث النّبوية كما هو الشّأن بالنّسبة إلى كلّ المشاكل التي تعترض الضّمير الدّيني، فيلجأ إلى تبريرها نصّياً. واعتبر أنّ الضّمير الدّيني، بداية من القرنين الثالث والرّابع، لم يعد يعطي القداسة فقط للوحي، وإنّما أعطى القداسة للمصحف الذي هو في الأصل ليس مقدّساً، والبرهان على ذلك أنّ المفسّرين إلى حدود القرن الخامس لم يكونوا يعتمدون قراءة موحّدة. واستعرض من ثمّ ما توصّلت إليه بعض الدّراسات من فرضيّة عدم وجود اختلاف في القراءات، وأنّ ما تمّ الحديث عنه، باعتباره اختلافاً بين القراءة التي ورد عليها مصحف عثمان، وهي حرف من الحروف السّبعة وباقي القراءات السّت، ليس سوى "لعبة" من ألاعيب الخطاب الدّيني الذي يوهم بوجود اختلافات كثيرة حتى يؤكّد الأصل.
وأجاب الأسود عن ذلك بقوله، إنّ نشأة المصحف الإمام مثّلت حركة أولى لتسييج الاختلاف، على اعتبار وجود نصّين؛ نص القرآن ونص الحديث النّبوي، وأن هذين النّصين تكاثرا في بيئة مشتركة، وفي ظلّ تعدّد قراءات القرآن، واعتبر أنّ تدوين المصحف الإمام قد قضى على الاختلافات في القراءة، وأنهى الكثير منها لأنّها كانت شفوية ولا قدرة لها على الصّمود أمام المكتوب، فغدا منطق تكاثر النّص القرآني محدوداً بما يمكن أن يسمح به جسم الكتابة، في حين أنّ الحديث النّبوي لم يتم تسييجه ولم يُمنع بالتّالي من التّكاثر. واعتبر في الختام أن هذه النّماذج من أثر اختلاف القراءات في السّياسة قد أظهرت بوضوح أنّ السياسة والاختلاف لا يمكن أن يتعايشا؛ فالاختلاف لا يخدم مصلحة السّلطة وأهدافها، لذلك كانت تسعى دائماً إلى توحيد النّصوص التي تستمدّ منها خطاباتها وشعاراتها السّياسيّة بما يسمح لها بالاستمرار.