لقاء فكري حواري حول كتاب: " الفكر المسيحي الكاثوليكي المعاصر والآخر" لعيسى الجابلي
فئة: أنشطة سابقة
انتظم بمقر مؤمنون بلا حدود وجمعيّة الدّراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، مساء الأربعاء 21 ديسمبر الجاري، لقاء فكريّ حواريّ حول كتاب "الفكر المسيحي الكاثوليكي المعاصر والآخر" لعيسى الجابلي، حيث قدّم د. نادر الحمامي قراءة نقدية في الكتاب، وأدلى صاحب الكتاب بكلمة تعقيبية، وأدار اللقاء الأستاذ فيصل شلوف.
والكتاب في الأصل بحث أكاديمي نال صاحبه من خلاله درجة الماجستير في اختصاص الحضارة الإسلامية في الجامعة التونسية، وقد صدر مؤخّرا عن منشورات مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وهو يثير مسألة ما فتئت أهمّيتها تتعاظم في ظلّ ما يعيشه العالم اليوم من صراعات دينيّة وسياسية وحضاريّة، ونقصد مسألة "الآخر"، سواء كان "آخر محليّا" أو "آخر حضاريّا"، وهو ما نظر فيه عيسى الجابلي في كتابه، انطلاقا من آراء وكتابات البابا السّابق جوزيف راتزينغر.
استهل د. نادر الحمامي كلمته بملاحظات طالت الكتاب شكلا ومضمونا، فأشار إلى أن البحث ينطلق من توصيف لواقع مأزوم ومتوتّر بين الأنا والآخر، ويفترض أننا إذا لم نفهم العلاقة الجدليّة بين الأنا والآخر فلن نستطيع فهم أنفسنا بالتالي، ولن نتمكن من خلق جسور التّواصل مع الآخر، وقال إن غاية الباحث التي أعلن عنها منذ البداية ليست فهم الآخر أوّلا وبالذات، وإنّما هي فهم أنفسنا في ذلك الآخر، وعلى ذلك حدّد غايات بحثه، وعليه أتبع الحمامي كلامه بجملة النقاش الآتي في مداخلته.
وقد لاحظ أن الباب التّعريفي الوصفي في الكتاب اعتمد اعتمادا شبه كلي على ما كتبه راتزينغر عن نفسه، وتساءل من ثم حول مدى إمكان أن نبني على ذلك صورة عن فكر راتزينغر، لأن المسألة ذاتية في النهاية، ولم يقدم الباحث مقارنات باتجاهات أخرى عرّفت به أو تحدثت عنه. وقال إن الباحث حاول أن يثبت عدم موضوعية راتزينغر على مدى الكتاب، وقدّم عن ذلك شواهد كثيرة، والحال أننا لا يمكن أن نؤمن بديهيّا بموضوعية راتزينغر أصلا، لأنه رجل دين، بكل بساطة، فهو يؤسّس أفكاره على قناعات دينية راسخة في ذهنه بكيفية لا تقبل النّقاش، واعتبر أن العديد من الأفكار مهمّة في هذا البحث ولكنّها بقيت مهمّشة، بالنّظر إلى أن تعامل الباحث معها لم يكن مركزيّا.
ولاحظ الحمامي ما أسماه ميل الباحث إلى الكنيسة الشرقية في مقابل الكنيسة الغربية، فقد رأى في الحلول التي يطرحها راتزينغر للوحدة المسيحية حلولا تعميمية وسهلة، تتلخّص في قبول كل طرف للآخر، ولكن الإشكال يكمن في أن الباحث يقترح حلولا مشابهة للحوار المسيحي الإسلامي. وانتهى الحمامي من ذلك إلى الخوض في القسم الثالث من الكتاب، والذي اعتبره لبّ البحث ومداره الرئيس، لأنّه يتعلّق بالبحث في صورة الإسلام انطلاقا من فكر راتزينغر، وقال إن تلك الصورة التي يستخلصها الجابلي هي صورة سلبية، واعتبر الأمر بديهيا، إذ يصعب أن يوجد رجل دين، مهما كانت عقيدته، يعترف بفضائل ديانات أخرى. فراتزينغر يعتبر الدين الإسلامي دينا شموليا، وقد ناقش الحمامي موقف الجابلي الذي اعتبر أن نعت الدين الإسلامي بالشمولية يضمر احتقارا للإسلام، وقال إن اعتبار الإسلام دينا شموليا لكافة مناحي الحياة يكاد يكون مشتركا بين أغلب المسلمين، وهو ما يشبه العقيدة لديهم، لأنهم يعتبرون الإسلام نظام حياة شامل، وخلص إلى أن ذلك لا يعد احتقارا للمسلمين، لأنهم يعتبرون تلك الصّفة الشمولية مزية وليست احتقارا، لأن نظرة المسلمين إلى دينهم هي نظرة فقهية بالأساس. وذكر أن ما يطلبه الجابلي في متون بحثه، من راتزينغر أن يميّز بين أخلاقية القرآن وروحانيته والمستوى التّشريعي الضئيل الذي ورد فيه، لا يمكن أن يحلّ الإشكال، لأن ذلك لا يزال أمرا غير قابل للحسم النّهائي في داخل الحضارة الإسلامية ذاتها؛ وتساءل قائلا: ''كيف نطلب من راتزينغر أن يفهم ما عجز المسلمون عن فهمه طوال تاريخهم؟''
وأشار إلى أن الجابلي انتقد فكر ريتزينغر الذي يقوم على اعتبار أن المسيحية أساس الحداثة الغربية، في حين أنه نفسه يقول في إحدى المواضع من كتابه إن ''القرآن بوصفه المصدر الأوّل للدين الإسلامي قد تضمّن ما يمكن اعتباره طريقا إلى الحداثة''، واعتبر أن ذلك تناقض وقع فيه الجابلي، ودخل بالتّالي في موضع جدال، وأصبح مدافعا عن الإسلام، في مقابل من هاجم الإسلام، وقال إنه عاد بذلك إلى بوتقة الجدل القديم. واعتبر أن المسألة لا يمكن أن تفضي إلى نتائج عمليّة إذا أبقينا على تناولها في إطار المركزية الدينية لكل طرف، سواء كان مسيحيا أو مسلما، ذلك أن كل دين يطمح إلى أن يكون استرجاعيّا، بمعنى أن يعود إلى ما يعتبره فترات مشرقة في التاريخ، وكل دين من هذا المنظور لا يمكنه إلا أن يجادل من أجل تثبيت أطروحاته. واستنتج الحمامي من ذلك وجوب تغيير أسئلتنا ومرجعيّتنا حتى لا تكون مرجعية دينية منغلقة.
وتضمّنت كلمة الأستاذ عيسى الجابلي، ردّا على جملة الملاحظات الواردة آنفا، فقد أرجع ما اعتبره نقائص شابت الكتاب إلى اعتباره تجربة بحثية أولى عمل فيها على تلمّس أدوات البحث العلمي، من خلال طرق موضوع شائك وصعب، وتحدّث بشيء من التفصيل عن الظروف الحافة بإنجاز الكتاب، وقال إن بعض المسائل التي تعتبر من بديهيات البحث العلمي هي في الحقيقة تُكتسب شيئا فشيئا بالدُّربة والنقاش والتّفاعل الذي ينشأ بين المهتمّين من باحثين وأكاديميين. وانطلق من ذلك ليبين دقة الموضوع الذي أقام عليه بحثه، فجوزيف راتزينغر يحتمل أكثر من شخصي، وقال إن ذلك جليّ في مستوى الخطاب، وأنه عندما يُسأل في حوار إعلامي عن الإسلام، يقول علينا أن نواجه هذه القوة، وعندما يوجد في إطار أكاديمي مع هابرماس يحاول أن يبتعد عن النص الديني أقصى ما يمكن، ولكنه يحاول بحنكة وبخبرة أن يظهر في مظهر المفكر والفيلسوف، وقال الجابلي بأن راتزينغر لم يذكر حرفا واحدا من الكتاب المقدّس في كتاباته على كثرتها، وأرجع ذلك إلى أنه كان يحاول أن ينزع لباس البابا ولباس الكاردينال ولباس رجل الدّولة (رئيس دولة الفاتيكان)، كي يظهر بمظهر الفيلسوف المفكر الذي يقارب المسائل الفكرية، ويُظهر مدى قدرته على مقاربة الأفكار من خارج النص الدّيني. وأشار إلى أن راتزينغر يقول: ''على الدّين والعقل أن يطهّر كل منهما الآخر'' ولكنه هو نفسه لم يكن يعمل بذلك، واحتج الجابلي بطبيعة الشخصية الإشكالية لجوزيف راتزينغر، ليبين أن المواقف التي احتواها بحثه لم تكن مسقطة، ولكنها حاولت مجاراة ذلك المنحى الإشكالي الذي يقارب شخصيته.
واختتم اللقاء بإحالة الكلمة إلى بعض المتدخّلين من الحضور الذين أدلوا ببعض الملاحظات التثمينية للقاء وللنقاش الذي دار حول الكتاب، واستوعب إشكاليات كبرى دائما ما تُطرح عند الحديث عن حوار الأديان والإصلاح الديني ونقاش العقائد ومركزية الإيمان والوجود الإنساني.