لقاء فكري حواري حول كتاب: "أصول الدين من خلال مجموع شروح الفقه الأكبر" للأستاذ الباحث الأسعد النجّار
فئة: أنشطة سابقة
الأسعد النجار يتحدث عن كتابه:
'' أصول الدين من خلال مجموعة شروح الفقه الأكبر لأبي حنيفة''
احتضن مقر مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث بتونس العاصمة، السبت 19 مارس الجاري، لقاء فكريا حول كتاب: ''أصول الدين من خلال مجموعة شروح الفقه الأكبر لأبي حنيفة'' للأستاذ الأسعد النجار، الذي تولى الحديث عن كتابه مجملا أهمّ الخلاصات التي ضمّنها إياه، مستعرضا أقسامه وأبوابه. كما شهد اللّقاء مداخلة حول بعض مسائل الكتاب قدّمها الأستاذ فيصل شلّوف، وأدار الجلسة الدّكتور نادر الحمّامي، بالإضافة إلى تقديمه قراءة نقدية للكتاب. وقد حضر اللقاء ثلّة من المثقّفين والباحثين.
وقد استهلّ النّجار حديثه عن كتابه ببيان الغيات التي دفعته إلى الاهتمام بأبي حنيفة ومؤلَّفه ''الفقه الأكبر''، ومن ذلك ما يسمّيه بالإهمال الذي تعرّض له أبو حنيفة حتى من أتباع المذهب الحنفي نفسه، وإذ يؤكد الأستاذ الأسعد على أهمية دراسة علم الكلام من خلال مجموعة شروح مؤلَف أبي حنيفة، فإنّه يرى أن ذلك من شأنه أن يفضي في النّهاية إلى مجموعة استنتاجات لا تتوقّف عند أبي حنيفة أو مؤلّفه، وإنّما تتعدّى ذلك إلى فهم البوادر الأولى لعلم الكلام، ذلك أنّ الكتاب يهتمّ بدراسة الموروث الكلامي في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة في مرحلة البدايات، وهي فترة يشوبها غموض بالنّظر إلى ندرة التّوثيق فيها.
وجدير بالذّكر أن الكتاب يهتم بشروح "الفقه الأكبر" وهي كما يعرّفها الكاتب أربعة (شرح إلياس السينوبي، وشرح الحكيم إسحاق الرّومي، وشرح أبو المنتهي المغنيساوي وشرح علي القاري)، ويطرح الكتاب العلاقة بين الفقه وعلم الكلام في بداياته، فلئن كان للفقه موجّهات نصّية استنباطيّة باعتماد المرجع النّصي المضبوط، فإن للكلام موجّهات عقديّة ومذهبيّة، تحاول الإجابة عن الأسئلة الوجوديّة الكبرى التي تتعلّق بالله والانسان والعلاقات القائمة بينهما.
وأشار الأستاذ الأسعد إلى أن هذا البحث يتحرّك في بعدين زمنيين مختلفين تمام الاختلاف؛ إذ هو يخاطب من جهة مرحلة البدايات الأولى، حين كانت مباحث العقيدة الإسلاميّة تتخطّى، بشيء من العسر، مصاعب الولادة والنّشأة لتشقّ لها عبر الكلام طريقا ضمن العلوم الشّرعية، وهو يخاطب، من جهة ثانية، مرحلة ما بعد الاكتمال؛ أي المرحلة التي غدت فيها المعرفة بالنّسبة إلى معظم علماء الإسلام المتأخّرين ضربا من التذكّر والجمع والتّأليف والتّبرير، ولما كانت سمة المرحلة الأولى الغموض والضبابية، وكانت سمة المرحلة الثّانية الاتّجاه نحو التبعيّة والتّقليد، فإن عددا كبيرا من الدّارسين المعاصرين اختاروا تجنّب التوسّع في تفاصيل هاتين المرحلتين، واهتمّوا في مقابل ذلك بالإنتاج الفكري الغزير لأساطين المعتزلة والأشعريّة خلال الفترة الممتدّة بين القرنين الرّابع والسّادس للهجرة، وقد أدّى ذلك إلى إهمال المدرسة الحنفيّة وغيرها مثل المدرسة الماتريدية.
وصف الأستاذ الأسعد بحثه بأنّه انغرس في تربة التّساؤل والحيرة منذ البداية، بعد الاطّلاع على ما ينسب إلى أبي حنيفة من فتاوى تخرجه في صورة رجل الدّين "المتحيّل"، وما رآه من إجحاف في حق النّعمان، وقد دفعه ذلك باتّجاه الاهتمام بالبحث في كل ما يتعلّق بشخصية أبي حنيفة، فكان القسم الأول من الكتاب تأسيسيّا للغوص بعد ذلك في تفاصيل الشّروح وجزئيّاتها في الأقسام الموالية.
وأشار إلى أن هذا البحث قد تأسّس على جملة من المصادرات، وذكر أهمَّها، ومنها:
- أنّ كلّ قراءة معاصرة تروم الاهتمام بشخصيّة تاريخيّة ما محكومٌ عليها بالفشل، إن هي تأسّست على خلفيّات تمجيدية أو تهجينية.
- أن العقيدة تتّصل بالواقع منذ بداية تشكّلها، ولذلك فكلّ ما يتّصل بالعقيدة يجب البحث فيه من خلال الواقع الذي أنتجه.
- كل قراءة لمنهج كلامي ستكتسب مزيدا من العمق، إن هي تأسّست على منهج مقارن.
- أن المعارف والعلوم كثيرا ما تتآلف في مجموعات كبرى، تتجانس فروعها المتقاربة من حيث المنهج أو المضمون لتقوم بينها علاقات جدليّة قوامها التّأثر والتّأثير.
وتحدّث بعد ذلك عن النتّائج التي خلص إليها بحثه، وهي:
- أن أبا حنيفة كان أكثر أهل عصره إدراكا لأهمية التّطوّر بالعقيدة والشّريعة، حتى يتاح لهما أن تواكبا متغيرات الواقع الإسلامي، وكان انتهاجه الرّأي في الفقه وتأثّره بالإرجاء في العقائد يعبّران عن ذلك بشكل جليّ.
- إن مقالات أبي حنيفة وتصوّراته العقائديّة شهدت ضمورا بيّنا نتيجة الإهمال المتعمّد الذي لقيته، لتشهد إعادة انبعاث بداية من القرن الخامس الهجري. لذلك فكتاب "الفقه الأكبر"، بصفحاته القليلة جدّا، كتاب تشكّل على التطوّر والتدرّج.
- عبّرت شروح الفقه الأكبر بصورة جليّة عن أزمة الهويّة والانتماء التي عاشها علم الكلام المتأخّر بشكل عام، والحنفي منه بشكل خاصّ، ممّا أدى إلى نوع من التّداخل بين الكلاميّات والفلسفيّات.
- انتفاء الحديث عن خصوصيّة تسم علم الكلام الحنفي نظرا لأنّ الحنفيّة ظلّوا متأرجحين بين مقالات الماتريديّة والأشعريّة.
- تعدّد أشكال الخضوع لـ "الفقه الأكبر" لدى الشّارحين وتقديسهم المطلق لأبي حنيفة، حتى أنّنا نجد الحكيم إسحاق الرومي ماثل بين "الفقه الأكبر" من جهة والقرآن من جهة أخرى، كما ماثل السينوبي بين أبي حنيفة والرسول.
وتناول الكلمة بعد ذلك الأستاذ فيصل شلّوف، مبيّنا جملة من الملاحظات التي رآها من خلال قراءته للكتاب، وقد حصرها عموما في بيان الجانب المتعلّق بعلاقة الكلام بالواقع الثّقافي والحضاري للعرب والمسلمين، وهو ما أكد عليه الكاتب، حين ذكر أن أبا حنيفة ليس ما أخرجه لنا التوجّه التّمجيدي، كما أنّه ليس ما أخرجه لنا خصومه من معاصريه ولاحقيه، وفسّر ذلك تفسيرا اجتماعيا سياسيا من خلال ما سمّاه ''مشاغل واقعه السّياسي والاجتماعي''، وأشار المتدخّل في هذا الصّدد إلى ضعف اهتمام البحث عموما، بتلك العلاقة بين فقه أبي حنيفة وكلامه وبين الواقع السياسي المحايث له، وتساءل عن أسباب ضمور ذلك الجانب في الكتاب.
وتناول الكلمة بعد ذلك الدكتور نادر الحمامي، فثمّن جرأة الأستاذ الأسعد النّجار في نقد ما توصّل إليه المستشرقون، بعد نظره في نفس النّصوص التي نظروا فيها، ممّا يدل على الحس النّقدي والحس التّاريخي الذي يتمتّع به الكاتب، بالإضافة إلى صعوبة البحث في تلك الفترة الغامضة من التاريخ الإسلامي التي شهدت بدايات تحوّل العقل الإسلامي من عقل شفاهي إلى عقل كتابي، أي بدايات التّدوين، تلك العمليّة السّياسية الرّسميّة التي تمّت في دواوين الخلافة، وأشرفت عليها الدّولة، ومثّلت فترة الخروج من مرحلة العفويّة إلى مرحلة التقنين والضّبط.
ثم أشار الحماّمي إلى ظرفية التّحول السّياسي، من الدّولة الأمويّة إلى الدّولة العبّاسية، الذي عاصره أبو حنيفة، والذي سينتج بدايات تشكّل العلوم الإسلاميّة، التي ستتحوّل تدريجيّا إلى مؤسّسة دينيّة ستساير بالضّرورة خيارات الدّولة. فلا يمكن بالتّالي عزل ما أنتجه أبو حنيفة عن علاقته بالسّلطة السّياسية؛ وأوضح المتدخّل ذلك بمسألتين: الأولى تتعلّق بخلق القرآن، والثّانية تتعلّق بالإرجاء، وهما مقولتان كلاميتان تميّزان الفكر المعارض للسّلطة السّياسية القائمة، باستثناء عهد المأمون. فالإرجاء قام ردّا على مقولات الخوارج، ولكنّه قام أيضا ردّا على سلطة الجبر من ناحية أخرى، ومقولة خلق القرآن ليست مقولة كلاميّة فحسب، وإنّما هي مرتبطة بمعارضة مقولة الجبر أيضا، وبذلك لا يمكن التغاضي عن الجانب السياسي في الحديث عن أبي حنيفة وفقهه وكلامه.
واختتم اللقاء بنقاش دار بين الحضور والكاتب حول مجموعة من مسائل الكتاب تعلّقت خاصّة بالجانب المنهجي للكتابة النقديّة في مسائل التّراث العربي الإسلامي، وعن العلاقة بين أصول الدّين والفقه، وتحديدا عن العلاقة الممكنة بين مواقف أبي حنيفة الكلاميّة ومواقفه الفقهيّة، وما يمكن أن يبقى لدينا الآن علميّا ومعرفيّا من أبي حنيفة، خاصّة وأنّه يعتمد ما يسمى فقه الحيل، أي الطّريقة الانتقائية في اعتماد النّصوص، والفصل بين ما هو عقائدي وفقهي شرعي سياسي.