لقاء فكري حواري: ''خمسة قرون على رحيل لوثر''
فئة: أنشطة سابقة
شهد مقر مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، يوم الأربعاء 30 نوفمبر الجاري، لقاء فكريا حواريا، تحت عنوان: ''خمسة قرون على رحيل لوثر''، بمشاركة كل من: د. نادر الحمّامي بمداخلة تمهيديّة حول: ''ما قبل لوثر''، ود. فوزي البدوي بمداخلة بعنوان: '' لوثر واليهوديّة''، ود. عبد الرزّاق الصيّادي بمداخلة بعنوان: ''لوثر وإصلاح المسيحيّة''، ود. محمّد الحدّاد بمداخلة بعنوان: ''لوثر والإصلاح الإسلامي''. وأعقب المداخلات نقاش مفتوح بين الحضور والمتدخلين.
افتتح اللقاء د. نادر الحمامي بكلمة ترحيبية بالضيوف من محاضرين وجمهور، وقدم لمحة عن فكرة اللّقاء، مؤكّدا أن الاهتمام بلوثر لا يعني في النّهاية سوى الاهتمام بالذّات الحضارية العربية الإسلامية دون سواها، فليس لوثر بعد خمسة قرون عن رحيله سوى مطيّة لفكرة الإصلاح التي لا تقتصر على المجال الديني بقدر تفرّعها إلى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكل ما يشمل الحياة في صورها العامة، باعتبارها تعبيرا عن بنى ذهنية وفكرية أبعد من المجال الديني، واعتبر في هذا السياق أن لوثر شخصية مهمة ومؤسسة، وأشار إلى ضرورة الاهتمام بما قبل التأسيس. وانطلق من ثم في تقديم مداخلته التّمهيدية التي تعنى بهذه الفكرة، وأشار إلى ما يسبق لوثر من أعلام حاولوا الإصلاح وعملوا على زعزعة قداسة المؤسسة الدينية، وقدّم مثالا عن ذلك شخصية ديزاريوس اراسموس (Desiderius Erasmus Roterodamus) في نهاية القرن الخامس عشر الذي انتقل من ثقافة الرهبنة إلى ثقافة التحرر. وكان له تأثير في شخصية لوثر، وأشار إلى ما يشابه ذلك في الثقافة الإسلامية ممن حاولوا كسر القداسة الدينية من أمثال المعرّي وغيره، إلاّ أنهم لم يستطيعوا تجاوز تلك القداسة الدينية.
وانتقلت الكلمة إلى د. فوزي البدوي، فافتتح مداخلته بالحديث عن تحرّج بعض الأوساط اليهودية من الاحتفال بلوثر، لأنه اشتهر بمعاداته للسامية، وبأنه مناهض لليهود، واعتُبر الأب الروحي لكل الحركات النازية والفاشية؛ لأنه ظل لفترة طويلة تستثمره الحركات اليمينية في أوروبا وأمريكا. وبيّن أن هذه المعاداة المفترضة التي تنسب إلى مارتن لوثر أثرت في العرب والمسلمين. وأشار إلى أن الإصلاح اللوثري كان جافا وشعبويا، باعتبار أن لوثر هو مترجم التوراة إلى اللغة الشعبية آنذاك (الألمانية) وواضع الأسس الأولى لتكون اللغة القومية. وقسم البدوي المراحل التي مرّ بها لوثر في حياته إلى قسمين: مرحلة أولى لم تكن مواقف لوثر فيها مناهضة لليهود، وكتب فيها أربعة نصوص لها علاقة باليهود ولكن دون أي إظهار لأية معاداة ضدّهم. ومرحلة ثانية اختلف فيها موقف لوثر من اليهود، وهي تبدأ من حالة التسمم التي حصلت له بعد أن أكل طعاما مطبوخا بحسب الطقوس الدّينية اليهودية، وكتب رسالة في طعام اليهود بعد ذلك، ووصفه بـ ''دليل استعلاء هذا الشعب اليهودي على بقية الشعوب الأخرى، ونصح المسيحيين بضرورة الابتعاد عن هذا الطعام الفاسد...''، وكتب بعد ذلك ''رسالة في اليهود وأباطيلهم''، وفيها اتهم اليهود بتحريف الكتاب المقدّس، وبنى على ذلك برنامجا للتعامل مع اليهود مستقبلا بداية بضرورة البدء بحرق كل المدارس اليهودية وحرق البيع والبيوت وإتلافها ومصادرة كل الكتب اليهودية ومنع الأحبار من الوظائف التعليمية، وتحديد تنقلات اليهود داخل المقاطعات الألمانية، ومنع الربا والإقراض اليهودي، وفي النّهاية قال لوثر بوجوب طردهم من ألمانيا ومطاردتهم ''كالكلاب المكلوبة''. وذكر البدوي كيف أن لوثر استعاد نقد الأسس التي قامت عليها الديانة اليهودية في كتاباته اللاحقة، ومنها فكرة ''شعب الله المختار'' وفكرة الأرض، وفكرة النسب الداودي، وحاول تحطيم كل تلك الأفكار واحدة فواحدة، وبيّن البدوي القطيعة التي نشأت لاحقا داخل الكنيسة الكاثوليكية التي تبرّأت من فكر لوثر المعادي لليهودية. وتساءل في القسم الثاني من مداخلته عن أسباب تحوّل الكنيسة البروتستانتية التي من المفترض أنها كانت معادية للسامية إلى مؤسِّسة للصهيونية وداعمة لها. وقد ربط ذلك بالتصور العقدي الذي يقول بإعادة بعث المسيح في أهله اليهود وفي أرضه، وهو ما سيدعو اليهود إلى الإيمان به وسيخيّرون بذلك بين أمرين، إما الدخول في المسيحية أو الإبادة. وخلص من ذلك كله إلى بيان العلاقات السياسية التي نشأت بعد ذلك بين اليهود والمسيحيين وكان من شأن العرب والمسلمين أن دفعوا ثمنها. وقال إن الصهيونية بذلك تعتبر حركة بروتستانتية وليست حركة يهودية، وهي تحمل في ظاهرها أفكارا مناصرة لليهود ولكن جوهرها هو إبادة اليهود.
وأحيلت الكلمة بعد ذلك إلى د. عبد الرزاق الصيادي، فاستهل مداخلته بتنزيل فكر لوثر في سياق حركة النهضة المسيحية، والخروج من الظلامية، باعتبارها جهلا مسيّسا ومقصود منه المحافظة على طبيعة المجتمع، وبيّن تأثير ذلك كله في الشأن الديني الذي لا يمكن أن يبقى جامدا أمام عالم يتحوّل، مما أنتج أزمة وترتّب عنها التفكير في الإصلاح الديني. وأشار الصيادي في سياق ذلك إلى مسألة صكوك الغفران، وكيف أن لوثر استنكر ما تقوم به الكنيسة من استعمال للدين بغاية جمع الأموال، ووقع ''تكفيره'' وأطرد من الكنيسة، ما أثار حركة دينية تلاقت برغبة سياسية واقتصادية للتحرر من هيمنة روما على إمارات ألمانيا، وبدأ انطلاقا من ذلك التحرر من الكنيسة ينطلق في كامل أوروبا. وقدّم الصيّادي أمثلة عن انتشار الحركة البروتستانتية في كل من سويسرا وفرنسا عن طريق كالفن، ما أنتج مجازر دموية شنيعة، مثّلت وصمة عار في أوروبا وفرنسا تحديدا. وبيّن من ثم تواصل فكرة الإصلاح الديني في إنجلترا، وما انجر عنها من حرب أهليّة ومذابح، إلى أن استقر الأمر على الكنيسة الأنغليكانية، والتي تحمل العقيدة البروتستانتية ولكن مراسمها وطقوسها وعباداتها كاثوليكية، وكانت عبارة عن تأليف بين الكاثوليك والبروتستانت. وتطرّق د. الصيادي بعد ذلك إلى الإصلاح الديني من المنطلق الكاثوليكي، وبين أن لوثر حين انتقد الكنيسة كان في الواقع قد أدّى لها خدمة لأن الدين المسيحي، كما قال، ''خرج بعد هذا الزلزال (الإصلاح) أقوى وأطهر''، واستنتج من ذلك أن أهمّية فكرة الإصلاح لا تكمن في اعتبارها طرحا بديلا للدين يقوم على هدمه، بل تكمن في اعتبارها داعما للدين ومطهّرا للعقيدة. وقد عدد أسس الإصلاح التي أثّرت في الكنيسة وساهمت في إضعاف دورها، بداية من عدم الاعتراف بسلطة البابا على المسيحيين والمطالبة بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة، والمطالبة بالرجوع إلى الكتاب المقدّس، لذلك رفع لوثر شعار (Sola scriptura)، أي ''الكتاب المقدّس فقط''... وأشار إلى أن ذلك الإصلاح التف حوله البروتستانت ولكنهم اختلفوا حول قضية الخبز والخمر المرتبطة بالعشاء الأخير للمسيح، مما أدى إلى تشرذم الكنائس البروتستانتية وتعدّدها، وقد خلّف ذلك مجازر وأهدر دماء كثيرة. وقد انتهى من كل ذلك إلى خلاصة اعتبر فيها أن حركة الإصلاح الديني المسيحي تمخضت عن ثلاث نقاط؛ أوّلها ''الله فقط'' أي لا يمثله على الأرض أحد فالعلاقة به يجب أن تكون مباشرة، والنقطة الثانية ''الكتاب فقط''؛ أي الرجوع إلى الكتاب المقدّس لأن المؤمن قادر بنفسه على قراءة الكتاب، والنقطة الثالثة ''النعمة فقط''؛ أي أن المسيحي يحقق الخلاص بالنعمة لا بأعماله.
وأحيلت الكلمة بعد ذلك إلى د. محمد الحداد، فقدم مداخلته حول علاقة المسلمين بالإصلاح اللوثري، منطلقا من ملاحظة منهجية تتمثل في التمييز بين ثلاثة أشياء؛ أوّلها "التاريخ" بالمعنى الحرفي للكلمة، والذي يمارسه المؤرخون المحترفون، والموجود في الكتب ووصفه بكونه علميا ولكنه في الغالب ليس هو ما يحرّك البشر والأحداث، ثم "الأسطورة" وهي ما لا يمكن إثباته علميّا ولكن يؤمن بها البشر، ثم هناك "السرديّات" التي تتشكل بين مجموعة من الناس وهي تختلف عن الأسطورة؛ لأنها تقوم على مجموعة من الأحداث الموضوعية التي يمكن إثباتها فعلا لكنها تختلف عن التاريخ بمعناه العلمي والأكاديمي، لأنها تعطي الأولوية لأحداث معينة على حساب أحداث أخرى. واعتبر الحدّاد أن فكرة الإصلاح مرتبطة مع ظهور ''سرديات الإصلاح الديني'' في الوسط الديني المسيحي نفسه. وانطلق بعد ذلك إلى التساؤل؛ هل إن هذه السردية مفيدة لمجتمعاتنا الإسلامية أو هي غير مفيدة. وبيّن أن تلك السرديات ترتبط أساسا بالحاجة الاجتماعية، وقدّم مثالا عن ذلك في حضور بابا الكاثوليك احتفالات البروتستانت بالإصلاح الديني. وأشار بناء على ذلك إلى أن مسألة التقبّل العربي الإسلامي للإصلاح الديني تندرج في سردية معينة، رصَد ملامحها في ما قبل القرن التاسع عشر من خلال عرضه لإشارات متناثرة في مجموعة من الكتب حول لوثر وحول فكرة الإصلاح الديني عموما... وانتقل بعد ذلك إلى رصد ملامحها من خلال بعض الشذرات المبثوثة في مؤلفات رواد النهضة، ولاحظ من ثم كيف أن التيّار الديني في النهضة العربية قد اهتم كثيرا بتأسيس هذه السردية الإصلاحية، وسيطرحها في المجال الإسلامي، باعتبارها تستجيب لقناعته بأن الإسلام أولى بفكرة الإصلاح بالنظر إلى أن نصوصه تحتوي على الكثير مما يدفع باتجاه ذلك. وقال بأن أولئك تفطنوا إلى أن عملية الإصلاح لا تمس من الدين في حدّ ذاته، بل هي تقوم بإضعاف المؤسّسات الدينية التي تتكلم باسمه، وتحتكر القول الديني، مما يتعارض مع ما سماه الحدّاد بـ ''جوهر الإصلاح'' والذي وصفه بنقل جوهر الإصلاح من الجماعة باتجاه الفرد. وخلص من ذلك كله إلى التساؤل عن مدى حاجتنا نحن العرب والمسلمين اليوم إلى تلك السردية الإصلاحية التي تأسست في القرن التاسع عشر، وهل ما إذا تجاوزنا هذا المستوى بعد.
وعقّب الحضور بعد ذلك، على المداخلات التي تقدّم بها المحاضرون، وأثاروا جملة من المسائل لعل أهمّها؛ مسألة التقارب المسيحي الصهيوني وآثارها على الواقع العربي والإسلامي المعاصر، وتعلّق مسائل الإصلاح الديني بالمجتمع العربي الإسلامي من جوانب حيوية تشكل بوابة باتجاه فهم الدين فهما متوائما مع الواقع، ودافعا في النّهاية باتجاه مصلحة الإنسان في الكون. كما تطرّق المتدخّلون إلى مسألة السردية الإصلاحية العربية الإسلامية مبيّنين تأسسها على أفكار إصلاحية من داخل المنظومة الدينية الإسلامية، ومنها أفكار ابن رشد على سبيل المثال، كما تساءل البعض عن إمكان قيام مقاربة فيلولوجية علميّة وموضوعية على النص الديني الإسلامي انطلاقا من اعتباره لغة بالأساس، بما يرفع عنه شحنة القداسة ويجعله قابلا لفهم إنساني يتماشى مع فكرة الإصلاح.