لقاء فكري حول رواية "لن تجنّ وحيدا هذا اليوم" لأمّ الزين بنشيخة المسكيني
فئة: أنشطة سابقة
"لن تجنّ وحيداً هذا اليوم" لأمّ الزين بنشيخة المسكيني
رواية تدعو إلى القراءة
احتضن المقر المشترك لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" و"رابطة تونس للثقافة والتعدد" لقاء فكرياً حول رواية "لن تجنّ وحيدا هذا اليوم" لأمّ الزين بنشيخة المسكيني، بمساهمة الأستاذ قيصر الجليدي والأستاذ عبد الدايم السلامي بمداخلتين، وقد أدار اللقاء الأستاذ نادر الحمّامي.
وقال الأستاذ نادر الحمامي في كلمته التمهيدية للقاء، الذي حضرته نخبة من الفنانين والأساتذة، إن الاحتفاء بهذه الرواية يأتي في إطار انفتاح مؤسسة مؤمنون بلا حدود ورابطة تونس للثقافة والتعدد على مختلف الأشكال الفكريّة والإبداعية مثل الرواية والمسرح وغيرها من الفنون، إلى جانب الدراسات البحثيّة.
وأوضح في معرض تقديمه للرواية أنها تبدو في الظاهر تسعاً وثلاثين حكاية منفصلة لا علاقة بينها، غير أن المتأمل سرعان ما يتفطن إلى الخيوط الرفيعة التي تربط بينها وتشد بعضها إلى بعض بخيط ناظم خفي.
هذا الخيط الناظم هو الجنون الذي تخوض فيه الرواية وهو "ليس فعلاً مسلطاً، بل أضحى في الرواية قراراً، وغدا جنونا عموميّا"، ثمّ إنّ "الثورة التونسية التي تدور حولها حكايات الرواية تشابه هذا الجنون في وجوه كثيرة"، ذلك أنّ الرواية تلامس موضوع هذه الثورة وما أثارته من أحلام ومطامح وانكسارات وآلام.
ومن جهته ركز الأستاذ قيصر الجليدي، في قراءته لرواية "لن تجن وحيداً هذا اليوم"، على العتبات بوصفها مدخلاً لقراءة الأثر بدءاً بالعنوان المرسوم باللون الأحمر وما يوحي به من دلالات عديدة، ملاحظا عدم ابتعاد أمّ الزين بنشيخة المسكيني الروائيّة عن اختصاصها الفلسفي، وقد حضرت العديد من الأسماء والشواهد والاقتباسات الفلسفيّة في متن الرواية وعتباتها.
هذا وعرج الأستاذ الجليدي على الإهداء "إلى كل مجانين الثورات العربية.. عفواً لن يطول انتظاركم"، مبيناً أن الجنون الوارد في العنوان لا يبعد عن الجنون الذي توحي به الثورات العربية، ذلك أن الكتابة والثورة، في نظره، جنون.
وقال الأستاذ الجليدي: "الفن هروب وغزو، ولكنه غزو اختار الكلمات سلاحاً يقوم مقام السلاح لأن من يختار السلاح، فقد اختار أن يتخلى طواعية عن حرية الاختيار"، مؤكداً أن رواية "لن تجن وحيدا هذا اليوم" رواية كاشفة للحقيقة الإنسانية والوجود الإنساني"، لذلك اختارت الكاتبة الكلمات لا السلاح لاعتبار "استراتيجي"، على حد تعبيره.
ربما لتلك الأسباب كان صوت الرواية "صوتاً سليطاً"، كما يقول، "لامرأة غاضبة ومتألّمة إلى أبعد الحدود، ممّا جعلها تتجاوز الأخلاقويّة المكبّلة، لا تجد حرجاً في أن تختلط بشكل خيميائي ساحر بأبطال روايتها وبطلاتها، حتى لا نكاد نميز بينها وبينهم. تخلط الحلم بالواقع، والجنون بالعقل، وتهدم الحواجز والمسافات، تتلاعب بالأمكنة والأزمنة كما يحلو لها".
وأكد الأستاذ الجليدي أن أمّ الزين بن شيخة "تكتب ضمن جمالية مخصوصة هي "جمالية البذاءة وقلة الأدب"، التي تقابلها في الفن جمالية القبح"، وهي تجند كل ذلك من أجل معالجة واقع مأزوم تروم تبديله وتغييره بما تحشده من أدوات وأساليب فنية. ومن هنا استعصت الرواية في العديد من المواطن على التصنيف فاستنجدت بالرسم، والمسرح، والشعر، والرقص، فاكتسبت غنى مشهديّا، وأغنى أبعادها الرمزيّة
أما الأستاذ عبد الدايم السلامي فقد اعتبر أن الميزة الأهم في رواية "لن تجن وحيداً هذا اليوم" هي أن القارئ لا يجد فيها أثراً لروايات سابقة، بمعنى أنها ليست استنساخاً لتجارب روائية سواء أكانت عربية أم عالمية، ممّا جعلها نَسيجُ وَحْدِها، وهي، في نظره، "رواية مكتوبة بخيال أنثويّ طري موجوع" لا تكتفي بتوصيف الواقع ونقله كما هو بصراعاته المذهبية والدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وإنّما تتجاوز مرحلة الوصف إلى تحليل مآلاته. ونزّل الرواية بين المتخيل والواقع أي في منطقة وسطى بينهما، فلا هي تلتزم بحرفية الواقع التزاماً تاماً، ولا هي تجنح إلى الخيال كل الجنوح.
وقال الأستاذ عبد الدايم السلامي إن الرواية يمكن أن تطرق من خلال أربع دوائر اهتمام:
* اللغة: وقد أشاد بلغة الرواية معتبراً أنها تقع بين النثر والشعر بل إنها شعر في أكثر من موضع، إلى جانب أجناس أخرى مثل المقال الصحفي وغيرها من أجناس الكتابة.
* الشخصيات: وأغلبها مكلومة مهلوسة غير مطمئنة إلى أنفسها في رأيه. فقدت أجزاء من أبدانها، غير أن "الوجع الروائي"، كما يسميه، قد حفز هذه الشخصيات على الضحك من الذات ومن الآخرين في آن.
* الأحداث: رأى الأستاذ السلامي أنها رواية تحتفي بالحدث وذلك بذكره ومساءلته.
* اللامعقول: ويقصد به الأستاذ السلامي "تعارض الفضاء والحدث والشخصية على إنتاج دلالة غير منطقية.
وانتهى الأستاذ السلامي في خاتمة مداخلته إلى أن رواية "لن تجن وحيداً هذا اليوم" هي رواية ترهق القارئ برمزياتها وتعدد دلالاتها وإلحاحها على المساءلة والتفكير.
وفي كلمتها أكدت أمّ الزين بنشيخة المسكيني أنّ الروائيّ لا يمكنه أن يقرأ روايته فهو يكتبها فقط. ثمّ إنها لم تكتب روايتها بمفردها، إنما كانت عملاً جماعياً قائما على الحلم، ساهم فيه أصدقاؤها وصديقاتها الّذين "خرجوا معي، كما تقول، إلى الشوارع، فصحنا وحلمنا وطمحنا واعتقدنا أن تونس لا ترحم من يسرق أحلامها أو يغتصبها". إنها في كلمة "رواية الشعب التونسي كله" كما تقول. و"لن تجنّ وحيدا هذا اليوم" هي رواية المعطّلين عن العمل، الواقفين في الطوابير، طوابير "تحت جلد الكاتب- الروائيّة. لقد اندمجت الروائيّة مع هؤلاء المعطّلين المفقّرين فدفعتهم هي دفعا إلى الجنون بفعل الأمر: "جُنّوا"، هذا الفعل الذي يصبح مرادفا لـ"احلموا".
وبالرغم من هذه الدعوة إلى الحلم فإنّ الروائيّة لم تخف في حديثها تلك النظرة السوداويّة، وقد ذكرت أنّ خروجها إلى الشارع كان فيه الكثير من السذاجة، وإن كانت "سذاجة جميلة". هذه الرواية مليئة بالألم، بل مليئة بـ"الوجع الموجع". كانت المواجع أنثويّة، إذ الأنثى، بعيدا عن كلّ تمييز جنسيّ، أقرب إلى الإحساس بالألم.
وختمت الروائيّة حديثها بدعوة إلى الصدق في الكتابة بعيدا عن كلّ الإيديولوجيّات، والإحساس بآلام الناس بعيدا عن كلّ توظيف وكلّ ضغوط، وهذا الأمر وحده هو ما يحقّق كلّ قيمة لأيّ عمل إبداعي أو فكريّ أو فنّي، ويحقّق خلوده.
هذا واختتم اللقاء بمساهمات وتعقيبات زادت النقاش إفادة والأفكار تعميقاً من قبل الحاضرين ومن بينهم فنانون معروفون وأساتذة وطلبة. فتمّ التطرّق إلى الرواية مبنى ومضمونا، ولكن بالخصوص تمّ التفاعل مع مواضيع أثارتها الرواية فكان الاسترسال في الحديث عنها كالتساؤل عن الجنون من زوايا مختلفة، وعن دلالاته، وعن معقوليته أحيانا، بل حتّى عن اعتبار الجنون موقفا فيغدون نوعا من التفكير. كما كان الإلغاز الفنّي الذي تميّزت به الرسالة فرصة سانحة للتأويل والتفكير، والخروج من مرحلة الرومنسيّة الروائيّة الحالمة إلى ربط ذلك بالواقع. وهذا الأمر جعل النقاش والحوار يؤكّد فعلا ما ذهبت إليه أمّ الزين بنشيخة في حديثها السابق من أنّ الروائيّ لا يقرأ نصّه وإنّما يكتبه والقارئ بفهمه وتحليل رموز النصّ وبذاتيته هو من يقوم بعملية القراءة.