مؤتمر دولي في غرناطة يخلص إلى ارتباط طرائق تدبير التنوع الثقافي بظواهر التطرف
فئة: أنشطة سابقة
بحضور الأستاذ يونس قنديل رئيس مجلس أمناء مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث ، والفيلسوف الفرنسي إدغار موران، والأمين العام للجامعات في حكومة إقليم الأندلس مانويل تورالبو رودريغث، والأمينة التنفيذية للمؤسسة الأوروبية العربية للدراسات العليا والمديرة المشاركة لكرسي دراسات الحضارة الإسلامية وتجديد الفكر الديني، والدكتور محمد بنصالح مدير معهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا خلص المشاركون في المؤتمر الدولي حول "رهانات التنوع الثقافي في أوروبا والعالم العربي" إلى أن ثمة علاقة جدلية بين التطرّف وسياسات تدبير التنوع الثقافي، وعلى خطورة نزعات التطرّف في توتير الأجواء الدولية وتفجير الصراعات الإقليمية، مع التحذير من مغبة تجاهل التطرّف بمختلف أشكاله وفي شتى جبهاته. وناقش المؤتمر الذي عقد في غرناطة الإسبانية، في بحر الأسبوع الجاري، إشكاليات تدبير التنوع والاختلاف والتعددية من خلال عرض تجارب دول عربية وأوروبية وأمريكو شمالية، وكذا من خلال عرض أطروحات حول سبل إقرار مبادئ التنوع الثقافي وترسيخ قيم التعددية، وذلك بمشاركة شخصيات علمية ودبلوماسية وازنة، في مقدمتها الفيلسوف الفرنسي إدغار موران الذي أكد أن مصير البشرية مرتبط بإنقاذ التنوع في الوحدة الإنسانية، وإنقاذ الوحدة في التعدد الإنساني، معتبرا أن القرن العشرين شهد عمليات للتطهير العرقي والديني للأقليات بدافع من النزعات القومية الشوفينية، وأن القرن الحالي المتسم بطغيان النزعة الحداثية والتقنية الواحدية يعد تهديدا حقيقيا للتنوع.
وأعرب موران عن قلقه من الأزمة القيمية التي تعرفها أوروبا حيث اعتبر أن الأزمات الإنسانية المتمثلة خصوصًا في طرد المهاجرين فور وصولهم، يوضح أن المنظومة القيمية الأوروبية باتت في حالة احتضار بعدما تنكرت لقيم ومبادئ عصر الأنوار، وأن أزمات الدول وانتكاساتها الحضارية هي في نفس الوقت تعبر عن أزمات في الإنسانية.
أما فدريكو مايور، رئيس مؤسسة ثقافة السلام، والمدير العام السابق لليونسكو،،فقد اعتبر أن التنوع الثقافي وإدارته والحفاظ عليه هو التحدي الأكبر في الزمن الراهن، موجها نقدا لاذعا للهيئات الدولية الكبرى وللولايات المتحدة الأمريكية التي قال إنها " لم تساهم يوما في نشر السلام عن طريق منظمة الأمم المتحدة" مضيفا بأن محاولة الولايات المتحدة الأمريكية تصدير نموذج جاهز متجانس واحدي كان السبب الرئيس الذي ساهم في تفاقم النزعات العرقية، والعنصرية، والعبودية، معتبرا أن أوروبا قد فقدت بوصلتها حين تنكرت للقيم التنويرية مثل "الحرية"، و"المساواة"، و"العدل الاجتماعي"، و"الكرامة الإنسانية"، ومطالبا بتحرير "السلطة الإعلامية" من الانتماءات الأيديولوجية والمركزية، كمدخل أساسي لتعزيز شرط الحرية والاستقلال المعرفي.
من جهته، اعتبر يونس قنديل، رئيس مجلس أمناء مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، أن الخطاب الشعبوي السائد في الغرب لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يؤسس لمجتمع متنوع ومتناغم مبني على قيم الحرية والمساواة، وأن البديل عن هذه النزعة الخطيرة المتنامية هو الانفتاح على مختلف المشارب الثقافية والحضارية الأخرى، دون أن يكون المحدد العرقي أو الثقافي أو الديني عائقا أمام الانفتاح والتلاقح المعرفي. وأكد الباحث في جامعة برلين على ضرورة مناهضة استغلال التيارات السياسية للدين لما له من عواقب تقوض التنوع والحرية الدينية وتساهم في تصاعد خطاب الكراهية، محذرا من خطورة التساهل مع ثقافة الكراهية، ومشيرا إلى أن منتجي الإسلاموفوبيا في الغرب لا يختلفون كثيرًا عن منتجي خطابات التكفير والكراهية في العالم العربي لأنهما يشتركان في المنطلقات والتصورات وإن اختلفت الأساليب والآليات. وخلص قنديل في كلمته الختامية في المؤتمر إلى أن العالم يحتاج إلى جبهة نضال عالمي ضد كل معاقل انتاج التطرّف ثقافيا وسياسيا، كما أشار إلى ضرورة أن يرتفع صوت المسلمين في نقد الحركات الإسلاموية الحاضنة لخطابات الكراهية والتدمير والهيمنة، حيث أشار إلى أن جماعة الإخوان المسلمين قد سممت التفكير الديني وروجت لأفكار الجهاد كاستراتيجية تغيير كوني، وهي تكون بذلك قد غذت خطاب وممارسات الجماعات الجهادية العالمية ومنحتها غطاء شرعيا لم تسحبه بعد، فالفرق بين داعش والإخوان المسلمين يكمن في آليات واستراتيجيات التكتيك الجهادي ولا خلاف بينهم على شرعية ممارسته من قبل جماعات عضوية تنحاز لمشروع مضاد للمجتمع ومستعدة لفرضه ولو بالأكراه والعنف، واستدل على استمرار هذا التقاطع بين الإخوان والحركات الجهادية من خلال تفشي خطاب الشماتة في كل من تصيبه قارعة الإرهاب، وتفشي خطاب الرضا بالانتقام من معرقلي هيمنة "البديل الإسلامي" كما تمارسه خطابات المدرسة الفكرية الإخوانية وأذرعها الإعلامية وجيوش التبرير الفاعلة في الواقع والعالم الإفتراضي؛ وينهي خلاصته بأنه لا يمكن تبرئة ساحة الإخوان المسلمين من المساهمة في صناعة الجهاد الذي غدى إرهابا منفلتا يسلط جام غضبه على المسلمين وغيرهم في العالم.
وخلص قنديل إلى أن الجانب النفسي والعامل اللاشعوري يطبع علاقة الإنسان بالعالم، الأمر الذي يحتم البحث عن القواسم المشتركة التي تدفع الجميع إلى البحث عن التراحم والتعاون وتطوير آليات تواصلية لا تقف عند حدود التعاطف، وإنما تمتد إلى بناء صرح فضاءات حقيقية للتعاون والتضامن والعيش المشترك.
أما مانويل تورالبو رودريغيث، الأمين العام للجامعات في حكومة الأندلس، فأكد على الدور الرئيس الذي يجب أن تلعبه الجامعات ومراكز البحث العلمي في الحد من تنامي خطابات الكراهية والإقصاء للآخر أيا كانت منطلقاتها العرقية أو الدينية أو الثقافية، وكذا مسؤولية المؤسسات الأكاديمية في إنتاج نوع جديد من الخطاب الذي يجعل التعدد الثقافي شرطا أساسيا لكل الدول التي تزعم أنها ديموقراطية وعلمانية.
أما السوسيولوجي الإيطالي ستيفانو ألييفي، فقد ناقش مسارات التحول من الإسلام في أوروبا إلى الإسلام الأوروبي، داعيا إلى ضرورة وقف الصراعات كمدخل أساسي لإدماج الإسلام في أوروبا، لأنها تولد خطابات الكراهية والعداء تجاه الأقلية المسلمة، حيث يتم اختزال موروثها الثقافي والهوياتي الديني في مسائل عرضية ومثيرة للجدل، تربك المسار العام للمجتمع بأسره.
واعتبر ألييفي أن حضور الإسلام في أوروبا فرصة للإسلام ولأوروبا في الوقت نفسه، فرصة للإسلام حتى يراجع مجموعة من مقولاته الفقهية وأحكامه التشريعية حتى يستطيع التعايش بإيجابية في الوسط الأوروبي، وهي فرصة لأوروبا أيضا بمعنى أن تواجد الإسلام في بنيتها المجتمعية يحتم عليها تعزيز تجربتها الديمقراطية والحداثية حتى تضمن الاندماج السليم والمتناغم للإسلام مع مختلف المكونات الثقافية والاجتماعية الأوروبية.
هذه الإشارة التقطتها الباحثة في جامعة كوبنهاجن تينا غودرون جينسن، حيث عرضت التجربة الدنماركية في تدبير التنوع والاختلاف، واعتبرت أنه على الرغم من أن الدنمارك مجتمع ديموقراطي يوفر الحرية والمساواة إلا أن سياسات الهجرة والاندماج في المجتمع التي نظر لها وشرع في تطبيقها، قد تم توظيفها كآليات ووسائل تفضي إلى الإقصاء المجتمعي أو إلى الاستيعاب الثقافي حتى يتماهى مع المجتمع وقيم أغلبيته، الأمر الذي سيجعل الدنمارك أمام محك وتوتر مجتمعي لن يكون من السهل أبدًا حله وتجاوزه، وهذا ما تفطنت له الدولة الدنماركية التي أصبحت تسعى إلى الوقوف على أهم الخصائص العرقية، والثقافية، والمجتمعية للأقليات، وإعادة صياغة سياسيات عمومية تكون أكثر استيعابا لمكونات الخصوصية الثقافية وضامنة للحقوق المجتمعية لهذه الأقليات.
أما بخصوص سياسات التعددية في إسبانيا، فقد اعتبرت الباحثة في جامعة مدريد، أنا بلانيت كونتريراس، أن سياسات التعدد الديني في أوروبا في القرن 21 تضع الأنظمة الديمقراطية أمام امتحان صعب. فإسبانيا وإن كانت تعرف نفسها كدولة غير متدينة، إلا أنها في الممارسة السياسية والاجتماعية مازالت تتعامل بحرج شديد مع الحرية الدينية.
وفي ما يتعلق بالسياسات التربوية التعليمية للديانة الإسلامية في إسبانيا، فقد اعتبرت الباحثة أن هذه السياسات تتسم بالرجعية، لأنها قد تجاوزت مسألة الاعتراف بالمكون الإسلامي في المجتمع إلى المساهمة في إنتاج خطاب الإسلاموفوبيا التمييزي. هذا التوجه الرجعي في السياسات التعليمية يعود إلى العديد من العوامل والأسباب، أبرزها الجهل، والسياسة والسياق الدولي المتسم بالعنف
هذا العنف الذي أنتجته مجموعة عوامل من ضمنها الخطاب الثقافي الأحادي المتنامي في الوعي الجمعي. ووفقا لميكيل رودريغو ألسينا، المحاضر في جامعة برشلونة، فإن حضور ثقافة الخطاب الأحادي وتجذرها يعود إلى صيرورة تاريخية أفرزت لنا التقابل المفاهيمي والقيمي "الغرب المتحضر والحداثي/ الشرق المتوحش والمتخلف". ولعل من أبرز الأحداث التاريخية التي جذرَّت هذا التقابل القيمي بين الغرب والشرق هو على سبيل المثال الإتيان بأهالي إفريقيا جنوب الصحراء إلى أوروبا وعرضهم أمام المتفرج الغربي على شكل حديقة حيوان للإنسان. وقد تم تقديم هذه العروض في مختلف الدول والمدن الأوروبية كمدريد مثلاً، في القرن التاسع عشر.
أما الباحثة في جامعة كبيك الكندية داني روندو، فقد حذرت من تصاعد الخطابات الشعبوية وتمكنها من مقاليد الحكم في مجموعة من الدول، الشيء الذي يمكن أن ينتج أعمال متطرفة ضد الآخر، مشيرةً في هذا السياق الى العمل الإرهابي الأخير الذي عرفته كندا والذي استهدف الأقلية المسلمة هناك. غير أن هذا لا ينفي ريادة التجربة الكندية، حيث أكدَّت روندو على أن نجاح النموذج الكندي في تدبير التنوع يعود الى سياسة كندا القائمة على عهد أخلاقي يحمي ويضمن الاندماج المجتمعي، عهد أخلاقي متمثل في الاعتراف التام والمطلق بقيمة الآخر. لذلك، نلاحظ أن السياسات التنظيمية للشأن العام تتميز دائما بالمبادرة في معالجة القضايا الأخلاقية، وتفهم الظاهرة الدينية، وتنسج مجالات الحوار المتبادل مع كل المكونات المجتمعية بغية البحث عن المشترك، وعلى ذلك تبني تصوراتها وخططها التنموية.
جدير بالذكر أن هذا المؤتمر نظم بشراكة بين كل من مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ومعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، والمؤسسة الأوروبية العربية للدراسات العليا، وجامعة غرناطة، وذلك في إطار البرامج العلمية لكرسي دراسات الحضارة الإسلامية وتجديد الفكر الديني.