محاضرة: " الدولة والثقافة والمجتمع " للدكتور منير السعيداني
فئة: أنشطة سابقة
استضاف صالون جدل بالرباط التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود، الدكتور منير السعيداني- أستاذ علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس في محاضرة علمية حول موضوع: "الثقافة والمجتمع والدولة: إشكالات في الراهن العربي" وذلك يوم السبت الموافق ل 24 دجنبر 2016 .
تقوم الفكرة الأساس على أطروحة مركزية تعمل المحاضرة على تفصيلها والبرهنة عليها، ومفادها أن صلاحية الدولة ما بعد الاستعمارية العربية قد انتهت تاريخيا.
نعمل في المحاضرة على بيان اتباع مسار تاريخي متعرج، يمكن تعيين احتلال بغداد سنة 2003 علامة من علاماته البارزة الأولى. ولكن علاماته الأكثر بروزا هي ما كان من موجات التغير الاجتماعي الحادة والسريعة والعميقة والعنيفة، أحيانا، التي شهدتها أقطار عربية عدة خلال السنوات الخمس الأخيرة. في اعتبارنا أن تلك الموجات لا تمس السياسي في معناه السلطوي فحسب، بل عملت أيضا في الاجتماعي في معنى إعادة ترتيب التنضيدات الاجتماعية ما بين الطبقات والفئات والشرائح والأصناف المهنية الاجتماعية المختلفة، وصولا إلى إعادة ترتيب العلاقات بين المجالات الثقافية، وعلى رأسها الفكري فالديني فالفني، بوصفها حقولا اجتماعية تنبني على مواقع وعلاقات ومصالح واستراتيجيات فعل وغائيات اجتماعية متخالفة متقاطعة.
من حيث العدة النظرية-المفهومية تستند الأطروحة التي نعرض على الجمع بين ما أتى على قلم الأنثروبولوجي البريطاني التشيكي إيرنست غيللنر حول مسارات تشكل الأمم وبناء الدول من حيث هما مسارا اختلاق اصطناعي، مرفودا بما ساهم به عالم الاجتماع الألماني نوربير إلياس من وصف سياق التوحيد الأوروبي خلال السنوات 1980، والذي يبين وجود تمايز اجتماعي تاريخي بين التشكل القومي والبناء الدولوي. كما تمكن العودة في ما نريد التأسيس له إلى ماكس فيبر الذي منه يستقي عالم السياسة الإسباني خوان خوزي لينث تمييزا بين سيرورة بناء الدولة وسيرورة تشكل الأمة من جهة وبين التسابق –التلاحق بين السيرورتين على خطّ الحدثان التاريخي حسب التعرجات التاريخية وتبدل الأوضاع الجغرافية السياسية.
مرجع النظر في تلك الأوضاع كما عاشتها الأقطار العربية المختلفة هو ما استتب على أثر الحرب العالمية الثانية من هندسات جغرافية سياسية كانت متضمنة في اتفاقية سايكس بيكو، وهي الهندسات التي بنت ما نسميه الدولة العربية ما بعد الاستعمارية. وقد فتح ذلك البناء الباب نحو صُوَرٍ شتى من التعاوض المتخالف المتقاطع بين سيرورات التشكل الثقافي الوطني-القومي من جهة وسيرورات البناء الدولوي من جهة ثانية. إن أخذ تلك الصور في الحسبان على أنها واقعة تاريخية مشهودة وتجسد اجتماعي هو مدخلنا نحو علم اجتماع حضور-غياب/استحضار-تغييب نقترحه تحليلا لما كان. وفي هذا المدخل، نحن نستند إلى ما قرأ به عالم الاجتماع البرتغالي بونافنتورا دي سوزا سانتوس تاريخ الحداثة الأوروبية-الأمريكية على أنّه تزاوج بين الاستحضار والتغييب، مفسرا أن الحضور الرأسمالي في التّاريخ الكونيّ الحديث لا يستقيم إلا بغياب ما يُريد أن يتناساه من تاريخ المُغيّبين كما كتبه مؤرّخوه هو بالذات لفائدته هو عينه. ونحن نقترح تطوير سوسيولوجيا الحضور-الاستحضار/ الغياب –التغييب هذه انطلاقا مما أسميناه تقابلا بين التشكل الثقافي والبناء الدولوي حيث نقرأ ثقافة فارضيّ حضورهم فيهما ولكن من دون أن نغفل قراءة ثقافية المُغيبين من تاريخ العرب المعاصر المصنوع من تشكل علاقات التساند التنافر بين الثقافة والدولة والمجتمع.
وبالعودة إلى النماذج التحليلية الأنثروبولوجية التي ترى كلاًّ من تشكل الأمة-الوطن وبناء الدولة مبنييْن على آلية مخيالية، ننظر إلى ما يهمنا من التاريخ والمجتمع العربيين المعاصريْن على أنهما مسرحان لتكافح قوى اجتماعية متخالفة بحركاتها التاريخية المتقاطعة، حيث نتجه إلى فحص التاريخ الرّسميّ والتنظير السوسيو- أنثروبو-قانوني لبناء الدولة ومركزيّتها في تقابل مع ما ناقضه من تشكل ثقافي. وبذلك نكون في سياق مراعاة المقتضيات المنهجية والنظرية والتحليلية لدراسات المستلحقين كما هي مُبلورة لدى المؤرخيين الهنديين ديبيش شاكرابارتي وراناهيت جوها. ومفاد ذلك، أن سياق التحديث الذي اندرجت فيه الدولة ما بعد الاستعمارية العربية كان، وظل، غير متجانس وأنّ الممارسات السياسية والثقافية فيه كانت مهجّنة ، حيث كان التقليدي، وبطُرُقٍ فعّالةٍ شَتَّى، تكوينيا في هندسة العلاقات العربية المعاصرة بين الثقافة والمجتمع والدولة. ويقتضي ذلك ضرورة الانتباه بأقصى حدّ إلى الإثنوغرافي واليوميّ والمحلّي في السيرورات المتخالفة والمتقاطعة لانبناء تلك العلاقات. وعلى أساس خطاطة تاريخية نعرضها، يصير من الممكن تفحص مدى وجاهة قولنا بانتهاء المنوال الاجتماعي التاريخي المؤطر لتلك العلاقات إلى انقضاء صلوحيته التاريخية.