محاضرة الأستاذ منصف بن عبد الجليل بعنوان "التشكل الثقافي للدّيني"
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقرّ مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، الجمعة 27 شتنبر، اللّقاء الافتتاحي لموسم الأنشطة الفكريّة والثّقافيّة، وتضمّن محاضرة قدّمها الأستاذ منصف بن عبد الجليل بعنوان: ''التّشكّل الثّقافي للدّيني''، وقد أدار اللّقاء الأستاذ نادر الحمّامي، وافتتحه بطرح فكرة عامّة حول الموسم الفكري والثّقافي الجديد الذي يتمحور حول موضوع "جدل الدّيني والثّقافي والعلاقة بينهما"، والذي سيقع الاشتغال عليه ضمن سياقات متنوعة ومنفتحة.
واستهلّ الأستاذ منصف بن عبد الجليل محاضرته بالإشارة إلى أهمّية الموضع العام، قائلاً إنّه يستبطن "إرثاً معقّداً للغاية ويوظّفه للبحث والنّظر في قضايا شائكة ومعاصرة تتعلّق خاصّة بتجديد الفكر الدّيني"، واعتبر أنّ ذلك يساعد على فهم ما يجري اليوم في الواقع العربي والإسلامي. ونزّل من ثمّ موضوع المحاضرة في هذا السّياق مستحضراً ثلاثة جوانب؛ يتعلّق الجانب الأوّل بمسألة الدّيني، واعتبر أنّ هذه المسألة تعدّ شيئاً ممّا تواضع عليه النّاس، وأنّها تطرح الكثير من الأسئلة حول العلاقة بين الدّين والدّيني من منطلق الإمكانات التي تسمح للدّين بأن يُجرى في سياق ثقافي ويتحوّل إلى ظاهرة دينيّة، ويتعلّق الجانب الثّاني بمسألة الثّقافي والمعنى المستفاد منها باعتبار أنّ الثّقافة تُعرّف بأنّها جماع السّنن والتّقاليد والأعراف وكلّ ما يعبّر به المرء عن نفسه في أحواله المختلفة ولا يخفى ارتباطه بالدّيني، أمّا الجانب الثّالث فقد حدّده في ما بين الدّيني والثّقافي من علائق ووسائط عبّر عنها بمفهوم "التّشكّل" الذي يعني البناء والتّرتيب والاختيار والاستقراء، وتساءل حول الآليّات التي يتمّ بمقتضاها ذلك كلّه لينتهي إلى التّشكّل باعتباره "صياغة".
وقدّم الأستاذ بن عبد الجليل تفكيكاً لما أسماه العلاقة المركّبة والمتشابكة بين الدّيني والثّقافي، ضمن أربعة أبعاد؛ يتعلّق البعد الأوّل منها بتصوّر الدّين نفسه بما هو موضوع للبحث في جملة من العلوم الدّينية، وهو بعد معرفيّ حول الدّين، ويتعلّق البعد الثّاني بالمتن التّأسيسي للدّين الإسلامي، أي النّصوص والحواشي والتّفسير والتّقعيد الفقهي والتّسييج المذهبي والفرقي، ويتعلّق البعد الثّالث بتاريخيّة كلام الله والحديث المنسوب إلى النبيّ والمروي عن الإمام في المنظومة الشّيعيّة، أمّا البعد الرّابع فيتّصل بسؤال هل الدّين في الاعتبار العقدي وفي غير الاعتبار العقدي ظاهرة من خارج الثّقافة أم هو جزء من النّسق الثقافي؟ وخلص من ثمّ إلى التّأكيد على أنّ هذه الأبعاد قد تتجاوز المسألة الدّينيّة إلى مسائل أخرى، وقد تفضي إلى تباينات كثيرة واختلافات حول أطراف العلاقة بين الدّيني والثّقافي.
وأثار المُحاضر بناءً على ما تقدّم سؤالين؛ تمحور الأوّل منهما حول طبيعة التّشكّل الدّيني في الثّقافة ومظاهره، وتمحور السّؤال الثّاني حول كيفيّات تأثير الدّيني في المحضن الثّقافي المتجدّد والمتغيّر والمتحوّل، وصدى ذلك في الاتّجاهين، أي من الدّيني إلى الثّقافة ومن الثّقافة إلى الدّيني. وافترض إمكان الوقوف من ذلك على علاقة مختلفة وجدليّة قائمة على ثنائيّة الفعل والانفعال، وبالتّالي على نوع من الحواريّة بين المتنين الدّيني والثّقافي. وقد بوّب المسائل ضمن هذه الثّنائيّة، فنظر أوّلاً في مسألة تشكّل الدّيني في الثّقافة مستعرضاً الكثير من الأمثلة التي تبيّن الآليّات التي تنتج التّغيّر في هذا التّشكّل، ليخلص بعد ذلك لطرح مسألة "الدّين العلماني وإمكان أثر الدّيني في الثّقافة".
واهتمّ في سياق التّشكّل بأربع "لحظات كبرى"، بداية بلحظة تأسيس الأصل النّواة، ثم لحظة التّشكّل ضمن الافتراق، ثمّ لحظة التّشكّل بالتّقعيد والمعياريّة، وصولاً إلى لحظة التّمثّل والاستحضار والتّوظيف. واعتبر أن تأسيس الأصل يقوم على فكرة الوحي الإلهي بكلّ جوانبها الرّمزيّة، وبيّن كيف أنّ الوحي انتقل من المطلق الإلهي باعتباره ظاهرة فوق لغويّة، ليتنزّل في لغة العرب، وأنّه لامس بذلك ثقافتهم وتشكّل فيها، ليتشكّل بعد ذلك في محضن الاختلاف والافتراق الذي يرجع السّبب الأساسي فيه إلى مسألة الخلافة والصّراع على السّلطة، وقد أرجع بن عبد الجليل هذا السّبب إلى اختلاف المسلمين الأوائل في طبيعة فعل العبد واختلافهم في المذنب ذنباً كبيراً، وهو ما أفرز فرقاً سياسيّة دينيّة (الخوارج والشّيعة وأهل الحديث والغلاة والمتصوّفة) قسمت العالم إلى دار إيمان ودار إسلام ودار كفر ودار عهد، وبذلك أنتجت لحظة تشكّل جديدة من داخل ذلك الافتراق أعادت في سياقها ضبط العلاقة بين الأنا المسلم والآخر المسلم المختلف، وانتهى المحاضر إلى لحظة التّقعيد الفقهي والتّشريع الذي يختلف من جهة إلى جهة ومن وضع ثقافي إلى آخر.
واهتمّ الأستاذ بن عبد الجليل في مسألة الدّين العلماني وإمكان أثر الدّيني في الثّقافة ببسط فكرة حول المفهوم على اعتبار أن القرآن نزل من أجل الإجابة عن حاجيات الإنسان الدّنيويّة والنّجاة في الآخرة، وخلص إلى القول إنّ هذه النّزعة الأخلاقيّة ذات البُعدين تدلّ على أنّ الدّين يفعل في الثّقافة، وبيّن أنّ مقولة الإسلام المعياري تؤكّد هذه النّزعة من منطلق قابليّة الدّين للتّطبيق في الواقع والتّجدّد في مقابل ما ذهب إليه بعض المفكّرين من اعتبار الحداثة إلحاديّة، واستنتج من ذلك أنّ الدّين يؤثّر في تحديد تصوّرات النّاس للعالم من منطلق اعتقادهم بأنّ العالم نتاج أخلاقيّة دينيّة، وبيّن أنّ هذه النّزعة الأخلاقيّة تتغافل عن حقيقة أن الإنسانيّة متقدّمة على التّديّن وأنّها لا تكون خارج شرطين؛ هما شرط القدرة على التّعقّل وشرط الحرّية، وقال إنّ الحديث عن هذين الشّرطين في ما بعد التّديّن إنّما هو حديث يقلب نظام البناء، والسّبب أنّه لا يمكن للإنسان أن يكون مكلّفاً إلاّ إذا كان عاقلاً وحرّاً.