محاضرة: "التصوف وتحولات مضمون ذاكرة التونسيين الجماعية"
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقر مؤمنون بلا حدود وجمعية الدّراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، الأربعاء 21 يونيو الجاري، محاضرة بعنوان: "التصوّف وتحوّلات مضمون ذاكرة التّونسيين الجماعيّة" قدّمها د. لطفي عيسى المتخصّص في مسائل التاريخ الثقافي في الجامعة التونسية، وأدار اللقاء د. نادر الحمامي.
وأشار لطفي عيسى بداية إلى أن ارتباط مسألة التصوّف بالذاكرة الجماعية يحيل أساسا على الواقع المعيش اليوم في المجتمع، وأن الذاكرة لا تعني التّاريخ، وإنّما هي تحيل على كل ما يتعلّق بالماضي الذي يحيا في الحاضر دون تلك المسافة التي يضعها التاريخ بين ما حصل في الماضي وما يحصل اليوم، وطرح من ثم ثلاث نقاط كبرى انطلق منها؛ وهي أوّلا البحث في إمكانيات تعريف التديّن الشعبي التونسي، وثانيا البحث في خصوصيات انتظام التصوّف في البلاد التونسية حاضرا من خلال التّعويل على نتائج سبر آراء، وثالثا التّساؤل حول الذاكرة الجماعية ومختلف التّحولات التي طالتها في ما يهمّ ظاهرة التصوّف.
وتوقف بعد ذلك عند ما أسماه عودة الانتظام الصّوفي في المجتمع التونسي، وبحث في دواعي طرح المسألة راهنا، وتجدّد الاهتمام بالمقدّس اليوم ومسائل التصوف بشكل خاص، سواء ضمن المعرفة الإنسانية والاجتماعية أو ضمن الإنتاج الإبداعي والفنّي خاصة، وقد عادت الظواهر الصوفية إلى واجهة الاهتمام منذ تسعينيات القرن الماضي. وتساءل قائلا: هل هناك انتظام روحي للمسألة الصوفية في تونس اليوم أم إنها لا تعدو أن تكون سوى مظاهر اهتمام شكلي تراثي أو فلكلوري؟ واعتبر أن الأطراف المعنيّة بالاهتمام بهذه المسائل الصّوفية تحمل هشاشات اجتماعية متعدّدة. ولذلك، فإن الظواهر الصّوفية تتركز في الأوساط الشعبية الأقل تعلّما من غيرها، واستخلص من ثم أن المضمون التعبدّي الرّوحي في الظّواهر الصوفية قد تقلّص، وهو سائر إلى الزّوال على اعتبار أن الاهتمام بالشّعائر الصّوفية أصبح اهتماما شكليا لا روحيا، غذّاه التوجّه السياسي في البلاد التونسية منذ التّسعينيات، وقد اهتم بمواضع ذاكرة شيوخ الصّلاح ومزاراتهم بالتزامن مع ارتفاع نسق الخطاب الاحتجاجي الإسلاموي، وبين أن اتجاهات الدولة التونسية
بالظواهر الصوفية قائم على توجّه سياسي أساسي، وبين أن الجامعة التونسية أيضا قد اهتمت بالمسألة، ولكن من وجهة نظر مختلفة تحيل على الأبعاد المعرفية والأنثربولوجية؛ فقد تم التركيز على آليات الوساطة والمخالطة (la sociabilité) والتكافل الاجتماعي (la solidarité) وحفظ الذاكرة الجماعية...وبين أن السبب في الاهتمام الأكاديمي بهذه الجوانب دون غيرها هو تركيز الأجيال السابقة من الباحثين على إشكاليتين كبيرتين في فترة ما قبل التسعينيات؛ وهما أوّلا حضور مؤسسات الدولة وكيفية اشتغالها وإثبات تواصلها منذ القديم تعبيرا عن تجذّر مشروع الدولة الوطنية والتأكيد على أن التونسيين بإمكانهم إنشاء دولة ذات مضمون وطني لا مضمون أجنبي استعماري مثلا، وثانيا الجانب الذي يتعلّق بإشكالية النموّ (le développement)، وهو الجانب الذي ركز عليه علماء الاجتماع لبيان آليات النمو الاجتماعي استنادا إلى المكونات الثقافية المتجذرة في المجتمع التونسي، والتي تمثّل عناصر مهمّة لإثبات الخصوصية. وخلص من ثم إلى اعتبار أن فترة التسعينيات شكّلت نوعا من الإحياء لمسائل كانت تبدو منتهية التّأثير ولا راهنية لها، وبالتالي انتهت جدوى الاشتغال عليها، وقد وصف ذلك بالانقلاب الذي عاضده انقلاب كوني في تصوّر الفرد والنظر إليه، مما أدّى إلى فتح ملفات كانت مغيّبة، مثل ملف المواطنة وإعادة صياغة مفهوم الانتماء الجمعي، وإعادة الاشتغال على ملف المقدّس والتديّن الشعبي والتنبّه إلى عناصر الغيرية وحضورها في ذوات التونسيين، وتحديد الشخصية الروحيّة للفرد التونسي.
وعرض عددا من الأعمال التي أنجزها الكثير من الأنثربولوجيين في العالم حول مسألة التصوّف وارتباطها بالثقافات التي أنتجتها وصولا إلى تحديد زوايا النظر التي قامت عليها في التعامل مع الظواهر الاجتماعية، وتصنيف المجتمعات والبحث في آليات تعاملها مع المقدّس وتمظهرات التدين الشعبي داخلها، مؤكدا أن قضية المقدّس مثّلت محورا مهما وجّه الكثير من السياقات البحثية والأكاديمية، واعتبر أن أشكال الانتظام الصوفي في المجتمع التونسي تدور حول جملة من الشعائر والممارسات الطقسية التي لا تتضمّن بالضرورة التزاما عقائديا محددا وتشمل المكونات الأساسية للتصوف ومراقد الأولياء ومزاراتهم وشيوخ الطرق والزوايا... وبين أن الممارسات المتعلّقة بالتصوف تقع في تماس بين ضوابط التديّن الرسمي المتضمّن لجملة من السلوكيات والآداب الصوفية التي تقوم على ثنائيات (الظاهر/ الباطن) و(الشريعة/ الحقيقة)، وقال إن التصوف يشترك مع التدين الرسمي (المؤسسة الفقهية) في العقل القياسي وفي التأصيل النصي، كما اعتبر أن التماهي مع المنظومة الدينية الرسمية كان يمثّل أمرا أساسيا في دراسة الظّواهر الصوفية، وقد أدّى ذلك إلى ظهور التصوف السنّي بداية من القرن العاشر الهجري بناء على توافق بين المذاهب السنية الأربعة وبين المؤسسات الصوفية.
وأشار إلى أن خصوصيات ظاهرة التصوّف في البلاد التونسية مرتبطة بجوانب أربعة، وهي الفقر والذِّكر والحضرة والجذب والغيب، رغم أن من التونسيين من يعتبر أن هذه الجوانب ليست ذات أهمية وأن زمانها قد مضى، وذلك استنادا إلى ما عرضه لطفي عيسى من نتائج سبر آراء تم في السنوات الأخيرة وأنجزته مؤسسات بحثية معروفة. وعدّد بعد ذلك الشخصيات الصوفية المعتبرة لدى التونسيين بحسب الانتماء الجهوي ونذكر من بينها أبي الحسن الشاذلي ومحرز بن خلف وعائشة المنوبية وأبي سعيد الباجي داخل مدينة تونس. أمّا خارجها، فإن الشخصيات الصوفية المعتبرة هي أبو زمعة البلوي وأبو لبابة الأنصاري وسيدي منصور وأم الزين الجمالية وبوراوي الفحل وعلي عزوز وأحمد التليلي... وقال إن التونسيين في تمثّلهم لهؤلاء المتصوّفة لا ينظرون إليهم في حقيقتهم أو في أفعالهم أو في مناقبهم وغير ذلك، مما ارتبط بهم من قصص وعبر أثثت المخيال الجمعي حولهم، وإنّما هم يتمثلونهم فقط في الجوانب الفنية والأناشيد والأذكار التي ألّفت حولهم والتي شهدت عودة قوية في بداية التسعينيات من خلال أعمال فنّية بعينها.