محاضرة: التقليد والإصلاح وتغير زمن الأمة
فئة: أنشطة سابقة
رضوان السيد: لا قطعية مع الموروث، بل مع الوعي به
دعا الدكتور رضوان السيد، إلى إعادة قراءة الموروث الديني، ونبذ دعوات القطيعة معه، كما دعا إلى تأهيل المؤسسة الدينية التقليدية ورد الاعتبار للجماعة بصفتها المسؤولة عن تحديد ثوابت الدين وصمام أمان أمامي دعاوى الحركات الإحيائية الفصامية.
وقد أكد المفكر اللبناني المختص في الفلسفة والفكر الإسلامي، في بداية محاضرته، التي ألقاها في إطار فعاليات صالون جدل الثقافي بمؤسسة مؤمنون بلا حدود بالرباط، يوم السبت 13 يونيو (حزيران)، على أهمية الموضوع الذي احتل جزءا ليس باليسير من انشغالاته خلال السنوات الخمس الماضية، وهي انشغالات تمحورت عموما، حول أطروحة الإصلاح الديني؛ إذ شكلت سنة 2010، يذكر السيد، لحظة حاسمة في منحى تفكيره، من خلال إعادة قراءة أعمال فقيدي الفكر العربي خلال هذه السنة، محمد عابد الجابري ومحمد أركون، اللذين عرفا بأهمية إنجازاتهما في دراسة التراث.
فالمفكران الكبيران، على الرغم من الاختلاف الواضح بينهما على مستوى المنهج والأهداف وطرائق الكتابة كانا الأكثر قراءة في العالم العربي، ورغم دعوة الجابري إلى التجديد من الداخل عبر تثوير التراث في مقابل دعوة أركون إلى التجديد من الخارج عبر القطيعة معه، فإنهما يتفقان في جعل الموروث الديني موضوع اجتهاداتهما.
وفي مقابل هذين النموذجين الفكريين البارزين، يطرح السيد رؤيته حول الموروث الديني عبر دراسة "انسدادات" الثقافة العربية الإسلامية خلال قرون أفضت، بحسبه، إلى ظهور تيار ديني يدعو إلى تجاوز التقليد، وهو تيار انقسم إلى اتجاهين: الأول سلفي أراد تصحيح مسار العقيدة غير أن وجود دولة لهم بالحجاز جعلتهم لا يكترثون بزوال الخلافة التي كانت أصلا تعارض دعوتهم. أما الثاني، فإصلاحي أراد تحقيق النهضة عبر الاستفادة من الغرب، وهو اتجاه نجح بفعل نضالات نصف قرن ضد التقليد في إحداث تصدع في جداره وانبثاق موجات الإحيائيين، والتي تبلورت في شكل حركات طرحت مسألة الشرعية الدينية، واعتبرت الدولة والمجتمع معا فاقدين لها بسبب عامل سيادة النموذج الغربي وقيام الدولة الوطنية.
إن هذا التيار بحسب المحاضر، الذي سماه بالاتجاه الإحيائي الفصامي الجديد، أدى إلى انفصال المسلمين عن الهند بمبرر أن لا ولاية للمسلم على غير المسلم، وأن الهند قد تحولت إلى بلاد كفر، فيما عكف الإخوان المسلمون في مصر على إعطاء مضامين جديدة للشريعة، التي لم تكن تعني سوى الدين نفسه، وبالتالي تطوير أطروحتهم حول الحاكمية.
كما توقف الدكتور السيد عند فشل الدولة الوطنية في بناء دولة المؤسسات وفقدها لدعم الشعب، مما نجم عنه انبثاق التنظيمات السرية العسكرية وصيرورة السلفية إلى أيديولوجية مقاتلة باسم الدين، فانتهى الأمر إلى ما وصفه ب"الانشقاق الديني"، حيث تجسدت بوادر ذات الانشقاق في ضرب العقيدة الأشعرية من طرف كل من العلمانيين، باعتبارها غير عقلانية ومن طرف السلفيين، باعتبارها منحرفة عن الدين، كما ضربت الجماعة أيضا باسم الحاكمية وتطبيق الشريعة، حتى صار غالبية المسلمين في هذا التصور خارجين عن الإسلام، وهو نفس الانشقاق أيضا حصل على المستوى الشيعي بانتشار مقولة ولاية الفقيه، كمقابل للحاكمية عند السنة، مما أدى إلى تطور سلبي في فقه الدين وفقه العيش.
إن العناصر الانشقاقية، يقول الأستاذ السيد، صارت شديدة الفعالية، حتى فقدت ثوابت الدين الإجماع حولها، وصار الإسلام الفعال هو المقاتل. غير أنه استهجن دعوة غالبية المفكرين إلى الخلاص من الموروث وإحداث القطيعة معه للتخلص من هذه الحركات الإحيائية، لتوهمهم ارتباط الحركة الإحيائية بالتراث، بينما الإحيائيون -كأقليات نخبوية طهورية وخلاصية- كانوا في حقيقتهم ضد الموروث.
كما رد المخاض الحالي في العالم العربي إلى ثلاثة عوامل، تتمثل في فشل الدولة الوطنية، وبروز الحركات الإحيائية، ثم فشل السياسات الوطنية والدولية في نشر الاستقرار والتماسك الاجتماعي. لذلك، يشدد، السيد، على ضرورة تسكين الدين وطمأنة الجمهور عبر الاهتمام بالمؤسسات الدينية، لتتمكن بالقيام من مهامها التقليدية في وحدة العقيدة والعبادة والفتوى والتعليم الديني والإرشاد العام. وكذا رد الاعتبار للجماعة، لأنها هي التي تحدد ثوابت الدين، بينما تبقى المؤسسات عبارة عن هيئات لها وظائف تنظيمية للدين، مذكرا بدورها في تخريج شيوخ كبار كانت لهم مواقف في رفض تسييس الدين، ورفض وجود دولة دينية في الإسلام والدعوة إلى إعمال النظر المقاصدي في الشريعة. كما شدد في نفس السياق، على مهمة المثقفين في إعادة قراءة الموروث الديني، أو بمعنى آخر التقليد، الذي ليس شيئا آخر سوى تاريخنا.
كما فند دعاوى القطيعة مع التراث مستعرضا، في السياق ذاته، ما ذكره رفاعة الطهطاوي عن أحد علماء المالكية، المسمى عبد السلام التواتي، الذي حرر رسالة يثبت فيها كروية الأرض ختمها بالقول، إن شكل الأرض، كيفما كان، لا علاقة له بديننا. وبناء على ذلك، حرر السيد، دعوته في ختام المحاضرة إلى إحداث القطيعة في الوعي وليس في الواقع، بدليل أن غالبية المسلمين دخلوا العصر دون طرح السؤال، وهو ما وعاه، يردف السيد، كل من الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهما من خلال إيمانهما بألا قطيعة إلا على مستوى الوعي بالواقع واختلالا ته.