محاضرة "ثقافة الموريسكيين في المنفى من خلال مخطوطاتهم" للدكتور رضا مامي
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقر مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجمعية الدّراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، الأربعاء 22 يونيو الجاري، محاضرة بعنوان: "ثقافة الموريسكيين في المنفى من خلال مخطوطاتهم" ألقاها د. رضا مامي، وأدار اللقاء د. نادر الحمامي بحضور كثيف من المثقفين والباحثين والأكاديميين.
وقدّم د. نادر الحمامي في كلمة ترحيبية بالحضور وبالضيف المحاضر، لمحة تعريفية عن د. رضا مامي، فإلى جانب تخصصه في اللغة والآداب الإسبانية وفي الأدب الموريسكي بالأساس، هو يكتب الشعر باللغتين العربية والإسبانية وله دواوين منشورة، ومن أهم ما صدر له ذكر تحقيق المخطوط الموريسكي رقم 9653 الموجود بالمكتبة الوطنية بمدريد، وهو في الدراسة اللسانية وقاموس المصطلحات، إضافة إلى اهتمامه بالشعر الموريسكي.
وأحيلت الكلمة إلى د. رضا مامي الذي أشار في بداية كلامه إلى بعض النقاط التي ستدور عليها المحاضرة، ومن بينها ثقافة الموريسكيين، وأسباب طردهم، والظروف التي مرّوا بها عندما استقروا في تونس، معتمدا على بعض المخطوطات التي كتبت في المنفى، وبصفة خاصة في تونس، باللغة الإسبانية.
وانطلق من حادثة تاريخية فارقة في التاريخ الوسيط، وهي سقوط غرناطة وانهيار دولة المسلمين في الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر، وطرد بني الأحمر آخر ملوك غرناطة، والاستيلاء على كل الإمارات الإسلامية في الأندلس، وردّ ذلك لا إلى ضعف المسلمين فحسب بل، أيضا، إلى عوامل أخرى؛ ومنها الصّراع الديني بين المسيحيين والمسلمين، ممّا أدى إلى التنكيل بالمسلمين وطردهم وتهجيرهم جماعيا، أو إكراههم على التنصّر، ولذلك اضطرت طائفة من المسلمين إلى اعتناق المسيحية، وسلوك سياسة التقيّة والكتمان والتظاهر بالمسيحية، دون التنازل عن العقيدة الإسلامية، تلك الطائفة هي التي عرفت باسم النصارى الجدد (Cristianos nuevos) أو الموريسكيين.
وخلص من ذلك إلى اعتبار عدم إمكان الحديث عن موريسكيين قبل سقوط غرناطة سنة 1492م، كما ليس بإمكاننا الحديث عن موريسكيين فيما بين 1492م و1501م عندما كان أهل غرناطة بموجب معاهدة التسليم يتمتعون بلائحة "الموديخا" أي المدجنين، التي تضمن حرية إقامة الشعائر الإسلامية، وأشار إلى أن ذلك يعني أن الفترة الموريسكية تبدأ من سنة 1502م عندما صدر مرسوم ملكي يحرّم ما كان مباحا، ويعتبر الشعائر الإسلامية مخالفة للقانون. وقال في هذا السّياق، إن السلطات الكنسية كانت في القرن السابع عشر قد اقتنعت تماما بأن الموريسكيين هم مسلمون ولا أمل في تنصيرهم، وبالتالي صدر قرار الطرد، وتم تنفيذه في الفترة بين سنة 1609م وسنة 1614م.
وتعرّض بعد ذلك، إلى أساليب القمع والمنع والتنكيل التي طالت الموريسكيين على يد المسيحيين؛ من ذلك أنهم أجبروهم على ترك أبواب ديارهم مفتوحة كل يوم جمعة لمراقبتهم، فكان لا بد على الموريسكيين أن يمتنعوا عن جميع الطقوس والعادات الإسلامية، مثل الصلاة والزكاة والصيام وختان الأطفال، وكانوا يجبَرون على الأكل والشرب خلال شهر رمضان... حتى تجمّعَ الموريسكيون وأعلنوا تمرّدهم وعصيانهم لقرارات الكنيسة، وقد دام ذلك أكثر من ثلاث سنوات انتهى بطرد أكثر من 80 ألف منهم من غرناطة، وتفريقهم في المناطق الداخلية، خاصة قشتالة القديمة وقشتالة الجديدة، ثم بدأ الإسبان يفكّرون في طرد الموريسكيين نهائيا، وكان لهم ذلك بداية من سنة 1609م عند صدور مرسوم الملك فيليب الثالث.
ثم بعد ذلك قام د. مامي بقراءة شهادة لرجل كنيسة واصفا فيها حالة الموريسكيين عند خروجهم من إسبانيا وفي طريقهم إلى بلدان المنفى، وهي شهادة تبين شدة البؤس والإهانات التي تعرض لها المطرودون من طرف الضباط الملكيين، وتصوّر الحالة التي كانوا عليها، وهم يغادرون منازلهم ويتركون ممتلكاتهم.
وخلص من ثم إلى الحديث عن الموريسكيين الذين وصلوا إلى تونس، وقدّر عددهم بما يقرب مئة ألف، وذكر المَواطن الأولى التي استقرّوا بها والحرف التي زاولوها؛ فالذين استقرّوا في العاصمة زاولوا صناعة الحرير والشاشية وصناعة الجلود... في حين زاول الذين استقروا في القرى والمدن القريبة من وادي مجردة نشاط الزراعة، ومثلهم أولئك الذين استقروا في الوطن القبلي وفي مدن الشمال الأخرى، وغيروا أسماءهم الإسبانية إلى أسماء عربية، ولكنهم حافظوا على ألقابهم الإسبانية، وكان قد استقبلهم في تونس عثمان داي وسهّل عليهم عملية الاستقرار والاندماج في المجتمع التونسي، وكان أن أعفاهم من دفع الضرائب.
واعتمد د. رضا مامي في مداخلته على العديد من الأمثلة والشواهد المستفادة من المخطوطات الموريسكية، ليبّن جوانب من المعيش اليومي والهيئة واللباس والممارسات والأنشطة التي كان الموريسكيون يتميّزون بها عن باقي السكان الأصليين، كما تعرّض إلى العلاقات التي جمعت الموريسكيين بسكان المدن التي وفدوا إليها، فقد كانوا يلاقون معاملة صعبة من السكّان بالنظر إلى شعور أولئك بالحسد تجاههم؛ لأنهم كانوا معفيين من دفع الضرائب، إلى جانب ما كانت نساؤهم تملكه من حلي وجواهر ثمينة، ونُعتوا بالمرتدين والنصارى، وعانوا من التمييز.
وأشار إلى أن تونس تمثّل أهم الوجهات التي وصلوا إليها، وحافظوا فيها على عاداتهم الإسبانية التي توارثوها جيلا بعد جيل متناغمة مع أصولهم وعاداتهم التقليدية الإسلامية. وأكّد أن اندماج الموريسكيين في المجتمع التونسي تم نهائيا في القرن الثامن عشر، وابتداء من ذلك الوقت لم يعد من الموريسكيين إلا قلة قليلة ممن حافظوا على اللغة الإسبانية.
وأشار في سياق آخر إلى أن جل الدراسات حول الموريسكيين كانت تعتمد على أرشيف الكنيسة ومحاكم التفتيش، وبيّن أن هذا الأرشيف لم يكن منصفا، لذلك فقد برز العديد من الباحثين والمؤرخين بداية من القرن العشرين، وانكبوا على دراسة المخطوطات التي كتبها الموريسكيون أنفسهم سواء قبل الطرد أو بعده. وقال إن ما يتوفّر اليوم من مخطوطات لما قبل المنفى وبعده يصل إلى مائتي مخطوط، وتلك التي كتبت قبل المنفى كانت باللغة الألخامية أو الأعجمية أي اللغة الإسبانية التي تكتب بالحروف العربية، والتجأ إليها الموريسكيون لغايات سياسية؛ لأنها تسمح لهم بالتخفي حتى لا يقع كشف الرسائل التي يمررونها فيما بينهم، ولأنهم كانوا يعون بقيمة اللغة العربية وقداستها. أما التي كتبت بعد المنفى وخاصة في تونس، فقال بأنها مختلفة لأنها كتبت كلّها باللغة الإسبانية لا بالعربية، وذلك لجهل الموريسكيين الذين استقروا في تونس باللغة العربية، وذكر مامي بأن عدد تلك المخطوطات المكتوبة في تونس هو سبعة وتوجد بمكتبات بإسبانيا وإيطاليا وفرنسا.
وقد ميّز مامي هذه المخطوطات المكتوبة في تونس حسب المضمون إلى ثلاثة مجالات، فأدرج بعضها في باب العقائد والتعاليم الدينية، وأدرج بعضها الآخر في باب الجدال الإسلامي المسيحي، وأدرج بعضا المتبقي في باب وصف معاناتهم وظروف طردهم. وأشار إلى أهمية القيمة التاريخية التي تميزت بها تلك المخطوطات، وقال بأنها تكشف حقائق مذهلة حول ظروف الطرد والتهجير وتُصوّر ألوان التنكيل والتعذيب والمعاناة التي تعرض لها هؤلاء الموريسكيون.
وأحيلت بعد ذلك الكلمة إلى الحضور الذين ساهموا في النقاش وتفاعلوا مع ما أتى على ذكره الدكتور مامي من أحداث عاشها الموريسكيون في إسبانيا قبل الطرد، وأحداث أخرى عاشوها في المنفى، وكيف اندمجوا في المجتمع التونسي وكوّنوا مدنا وقرى ذات مميّزات ثقافية أسهمت في إثراء التنوع الاجتماعي في تونس. وأشار بعض المتدخّلين في النقاش إلى أن التواجد الموريسكي في بلدان المنفى لم يقتصر على بعض الدّول العربية بل إنه امتد حتى دول أمريكا اللاتينية، حيث هاجر الموريسكيون إلى هناك وكانت لهم إسهاماتهم الثقافية والحضارية حيث حلّوا.