محاضرة دة. ناجية الوريمي بعنوان: "محاكمة الشافعي"
فئة: أنشطة سابقة
انتظم بمقر مؤسسة مؤمنون بلا حدود وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، السبت 20 أبريل، في إطار سلسلة محاكمات الفكر شرقا وغربا، لقاء فكري حواري تضمّن محاضرة للأستاذة ناجية الوريمي بعنوان: "محاكمة الشّافعي"، أدار اللّقاء الأستاذ نادر الحمّامي. وقد انقسمت المحاضرة إلى ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى اهتمت فيها الأستاذة الوريمي بالشافعي قبل المحاكمة، وبحثت في أسباب الفترة المسكوت عنها والمجهولة من حياته، ورأت أن من غير المعقول أنّ علما على درجة من الأهمّية في الفكر العربي الإسلامي لا يقع الاهتمام به في مختلف مراحل حياته. أما المرحلة الثّانية، فاهتمّت فيها بالمحاكمة، وقد أسمتها "خصوصيّة المحاكمة وخطورة النّتائج"، واعتبرت أنّها محاكمة فريدة من نوعها، لأنّها وزّعت إلى مستويين سياسي وفكري. أمّا المرحلة الثالثة، فبيّنت فيها تحوّل الشّافعي، ذلك أنّ المحاكمة لم تؤدّ إلى الإضرار بالشّافعي، وإنّما أدّت إلى تحوّله فكريّا.
وانطلقت الوريمي في القسم الأوّل، من اعتبار أنّ الشّافعي لم يكن سنّيّا ولا من أصحاب الحديث، وإنّما كان معتزليّا زيديّا، قائلة إنّ الوصول إلى نتيجة من هذا القبيل تبدو على درجة كبيرة من الأهمّية، لأنّها تساهم في توضيح كيف انتشر الفكر السنّي الرّسمي وكسب الأنصار وساد تاريخيّا، بغضّ النّظر عن دعم السّلطة السّياسيّة له، وقالت إنّ الإقرار بهذه النّتيجة ينبّه إلى قيمة منطق الاستدلال داخل المنظومة السنّيّة، ذلك أنّ الشافعي نجح في الاستدلال على منظومة فكر السّلطة في ذلك الوقت، ما سيكون له دخل في تحويل مجريات المحاكمة التي سيتعرّض لها، وبيّنت الأدّلة على ذلك في نقاط أربع؛ بدءاً من علاقة الشّافعي بعلم الكلام، وعلاقته بعلماء الكلام المعتزلة بدرجة أولى، ومواقفه وآرائه الاعتزاليّة قبل أن يتحوّل إلى مذهب السنّة، وثبات اتّهامه بالضّعف في صناعة الحديث، لأنّه وافد على هذه الصّنعة وليس منها، واعتمدت في ذلك على شهادات متفرّقة في النّصوص تدلّ على تحوله من الاعتزال إلى السنّة.
ولاحظت أنّ الفترة الأولى من مسيرة الشّافعي ظلّت مجهولة في الأغلب، أو مسكوت عنها، وأرجعت ذلك إلى أنّ خطاب أصحاب الحديث رام حجب الكثير ممّا تعلّق بأساتذة الشّافعي، وعمد إلى نقضها عن طريق صياغة أقوال نسبها إليه، مفادها إنكاره أن يكون تتلمذ على من يقول بخلاف مواقفهم ومقولاتهم، بالنّظر إلى ما تثيره علاقة الشّافعي بأعلام من "أصحاب الأهواء المعتزلة" من إشكال في خطاب المحدّثين. فعمدوا إلى التّصرّف فيها وتأويلها، حتّى ينفوا عنه الميل إلى هؤلاء، أو الانتماء إليهم.
واهتمّت الأستاذة الوريمي في القسم الثّاني، بعرض ظروف المحاكمة ومجرياتها، فأشارت إلى أنّها انعقدت في منتصف القرن الثّاني الهجري، وقد تداولتها المصادر بروايات متضاربة، ومن بينها أنّ الشّافعي حوكم لأنّه تولّى القضاء في اليمن والتزم بالعدل، وهو ما مسّ من مصالح بعض الوجهاء هناك فدبّروا له المكائد، واتّهموه بالزّيديّة، ونُقل هذا الخبر إلى الرّشيد فاستدعاه وحاكمه. وقالت الوريمي إنّ هذا الخبر هو إعادة تشكيل لما جرى، لأنّ الشّافعي تولّى فعلاً القضاء في اليمن عندما كان البرامكة يحكمون، أي قبل محنتهم، وذلك حسب التّوجّه العام الذي كرّسه البرامكة بأن شجّعوا حركة الفكر والتّرجمة وقرّبوا علماء الكلام المبعدين، لذلك استنتجت أنّ المحاكمة لم يكن لها علاقة بالمهمّة التي تولاّها، وإنّما بثورة زيديّة اعتزاليّة جدّت في اليمن ضدّ الرّشيد وشارك فيها الشّافعي، وجُلب إلى بغداد مع قادة تلك الثّورة وقُتلوا كلّهم إلاّ هو. واستنتجت أنّ المحاكمة تُثبت نوعاً من الخصوصيّة للشّافعي، إذ تركّز على نسبه القرشي وبالتّالي قربه من الرّسول، واعتمدت على ذلك في ترجيح سبب نجاته، بخلاف ما ترويه المصادر من أنّ الشّافعي قال دعاءً مأثوراً عن الرّسول في الحالات الحرجة فكان سببا في مِنعته، وبينت الوريمي في المقابل أنّ نسبه القرشي هو الذي ميّزة عن جملة الذين جلبوا للمحاكمة إلى جانب قدرته على المجادلة والإقناع، وكونه أصبح مشهوراً بعلمه وفقهه، وقد شفع له البرامكة لدى المنصور لاهتمامهم بعلم الكلام وانفتاحهم على الفكر.
وعملت الأستاذة ناجية في القسم الثّالث من المحاضرة على بيان تحوّل الشاّفعي، استناداً إلى تضارب المواقف حول اشتغاله بعلم الكلام بين نافٍ ومثبت، وأشارت إلى أنّ بعض المصادر تورد أقوالاً منسوبة إلى بعض العلماء تفيد أنّ الشّافعي مرّ من حال إلى حال؛ وقد جاءت هذه الأقوال في شكل شهادات يصرّح بها أصحابها، مدينين أو مباركين هذا التّحول، كما أنّ بعض المصادر تصرّ على إخراجه في صورة أنموذج العالم بالنّص، الذي لم "يلطّخ" صفاءه الفكري بهذا العلم الموصوم بالبدعة والزّندقة والكفر في منظور ثقافة السّلطة الدّينيّة والسّياسيّة في ذلك العهد وإلى ما قبل أبي الحسن الأشعري الذي قام بالتقريب بين "المنظومة النصيّة" و"علم العقل"، أو المصالحة بين أصحاب الحديث وعلم الكلام. وبيّنت أنّ الشافعي اشتغل بعلم الكلام في البداية ثم تراجع وتبنّى موقف المحدّثين في محاربة هذا العلم وإقصائه من العلوم المعترف بها، وأنّه استثمر بعد تحوّله آلته الحجاجيّة المستمدّة من علم الكلام في بناء المنظومة النّصيّة والدّفاع عنها، بما يتوافق مع ما كانت تقتضيه المرحلة، وما كانت تبحث عنه الثّقافة الرّسميّة عصرئذ.