محاضرة عامّة حول موضوع: "تاريخ الأديان: النّشأة، المفاهيم، المناهج"
فئة: أنشطة سابقة
انتظمت بمقرّ مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، السبت 18 يناير الجاري، المحاضرة العامّة التي أمّنها د. فوزي البدوي أستاذ الدّراسات الدّينيّة بجامعة منّوبة، حول موضوع: "تاريخ الأديان: النّشأة، المفاهيم، المناهج". وأدار اللّقاء الذي تابعه عدد كبير من الباحثين والمهتمّين، الأستاذ نادر الحمّامي.
وافتتح الأستاذ فوزي البدوي محاضرته ببيان السّياق العام الذي تتنزّل فيه، على اعتبار أنّها جزء من سلسلة موسّعة من المحاضرات التي تهتمّ بمسألة تاريخ الأديان المقارن، والتي تبدأ ببيان الإطار العام للمسألة والبحث في شروط تحقّقها في مستوى الاهتمام العربي المعاصر بالدّراسات الدّينيّة، مع الكشف عن الأزمات التي تعيق تحقيق مستوى علميّ وأكاديميّ مهمّ في دراسة الأديان. وبيّن أنّ هذه المحاضرة ستلحقها تباعاً محاضرات أخرى تتركّز على أعلام قامت عليهم دراسة الأديان في الثّقافة الغربيّة وساهموا في نحت الصّورة التي عليها موضوع الأديان الحديث، بدءاً بميرسيا إيلياد، وصولاً إلى رودولف بولتمان، مروراً بليفي ستراوس، فجورج دوميزيل وماكس فيبير.
وأشار في هذا السّياق إلى أنّ الدّول العربيّة، لِما بعد الاستقلال، قد ركزت جهدها كلّه على المسائل التّقنيّة والاقتصاديّة، ولم تهتم بما فيه الكفاية بالمسألة الدّينيّة، ما جعلها تعاني من أزمات دوريّة، تجعل من المسألة الدّينيّة تعود بقوّة إلى نقطة البداية نفسها في كلّ مرّة، قائلاً "ستبقى المنجزات السياسيّة والاقتصاديّة في العالم العربي مهدّة بالانهيار بشكل دوريّ طالما لم تقع مراجعة علاقة المجتمعات العربيّة بالمسألة الدّينيّة". وأكّد على أنّ تلك الأزمات ستتواصل وتتعمّق أكثر فأكثر طالما لم تقم هذه الدّول بإعادة ترتيب علاقتها بالدّين، ولم تضطلع مؤسّساتها الجامعيّة بدور مهم في ذلك، من أجل تكريس قضايا النّقد التّاريخي في سياق الدّراسات الدّينيّة الحديثة.
واعتبر أنّ مستقبل الدّين رهين بنوع النّخب المثقّفة والمفكّرة التي تتكوَّن داخل الجامعات. ولكن ذلك لا يعني أن يتمّ التخلّي عن الدّين ولا عن دور المؤسّسات الدّينيّة التّقليديّة، التي عليها أن تجدّد مناهجها وتعمل على الالتحاق بالمسار الجمهوري، كما اعتبر أنّ على النّظام الجمهوري أن يبني مؤسّساته الدّينيّة الخاصّة به وفق روح معلمنة، وأن يفكّر الفاعلون السّياسيّون فيه بطريقة جذريّة في أن يقيموا مؤسّسات دينيّة جديدة تأخذ على عاتقها بناء رؤية نقديّة واضحة للدّين، مؤكّداً على أهمّية إحداث جامعة عموميّة لتدريس الأديان "بوليتكنيك لتدريس الأديان" تنطلق من اعتبار أنّ الدّين هو أفضل ما أنتجه الوعي البشري وأنّه جدير بالاحترام والدّراسة والوصف والتّحليل، وبالتّالي لا تنطلق من موقف يعادي الدّين، وأن يكون المنتسبون إليها من المتديّنين ومن غير المتديّنين.
وعرّج المحاضر على تمثّل المسألة الدّينيّة في الخطاب الإسلامي القديم من خلال مثال ابن حزم الأندلسي، معتبراً أنّه تمثّلٌ لم يستطع التّجرّد من سلطة الانتماء إلى الدّين، وأنّه وقع في إشكال المفاضلة، ما جعله عاجزاً عن تقديم فهم محايد للمسألة الدّينيّة يمكن استثماره حديثاً والبناء عليه في علاقة بما يمكن أن يفيد واقع المجتمعات العربيّة في علاقتها بالأديان الأخرى، قائلاً: "لقد وقع المسلمون الذين كتبوا في الملل والنّحل قديماً في صعوبات هيكليّة تتعلّق بجملة من المسلّمات، ومنها؛ اعتبار أفضليّة الإسلام على باقي الأديان وأفضليّة المذهب الخاص على باقي مذاهب الإسلام"، وبيّن أنّ هذا السّبيل في التّعاطي مع المسألة الدّينيّة لدى العرب لم يكن يختلف عن معظم المسارات التي تعاملت مع الأديان في العصر الوسيط، سواء منها اليهوديّة أو المسيحيّة أو الإسلاميّة، وأنّها طريقة للنّظر في الدّين تعتمد على أمرين اثنين هما؛ الدّفاع والجدال؛ فقد كان الدّفاع عن العقيدة الخاصّة في مقابل العقائد الأخرى هو السّمة الأساسيّة لذلك، وكان الجدال هو الوسيلة لذلك الدّفاع، ليس من أجل البحث عن الحقيقة بل من أجل البحث عن الإقناع.
واعتبر البدوي أنّ المأزق الخطير المتعلّق بهذا الجانب يكمن في أنّ تلك الأسس القديمة القائمة على المفاضلة والدّفاع والجدال، هي التي يتواصل تدريسها إلى اليوم في كلّيات الشّريعة والمؤسّسات الدّينية التقليديّة في العالم العربي، وأنّ ذلك أساساً ما يجعل تلك المؤسّسات تتزاحم على تدريس الأديان المقارنة، والحال أنّه لا يمكن تدريس الأديان المقارنة وفق تلك الشّروط القديمة، لأنّ المبدأ المنهجي الذي تستند إليه اليوم يقوم على عدم وجود أفضليّة لأيّ دين على الأديان الأخرى سواء تعلّق الأمر بالأديان الكتابيّة أو غيرها من الأديان الوضعيّة، قائلاً " إنّ الأديان جميعها جديرة بالاحترام، وهي على الدّرجة نفسها من المساواة".
وخلص إلى اعتبار أنّ وجود هذا التّخصّص مرتبط بتوفّر "شروط إمكان" بدءاً بلائكيّة العقول والرّوح والمجتمعات، ووجود قوى اجتماعيّة تساعد على قيام هذا النّمط من الخطاب، وتجعل من الدّين موضوعاً للوصف والنّقد والفهم والتّحليل، وليس من شروط المشتغل بهذه المسائل أن يكون مؤمناً أو غير مؤمن. كما بيّن أن هذا العلم يقوم على جملة من المراحل التي أسّس لها المنظّرون لتاريخ الأديان المقارن في الغرب بداية من منتصف القرن التّاسع عشر، وهي المرحلة التّاريخيّة، ثم المرحلة الظّاهراتيّة، ثم المرحلة التّأويليّة. وأشار إلى أنّ عدم توفّر هذه الشّروط يجعلنا اليوم أمام فوضى مفهوميّة واصطلاحيّة لا تعطي دليلاً على وعي المجتمعات العربيّة بضرورة الاهتمام بترتيب علاقتها بالمسألة الدّينية من أجل أن تتقدّم بوعي الشّعوب نحو إدراك أسس فهم الذّات من منطلق الاعتراف بالآخر.