محاضرة فوزي البدوي: "حركة الإصلاح الدّيني في اليهوديّة في القرن 18م"
فئة: أنشطة سابقة
انتظمت بمقرّ مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، يوم السبت الموافق ل 8 فبراير الجاري، محاضرة بعنوان: "حركة الإصلاح الدّيني في اليهودية في القرن 18م"، قدّمها أستاذ الأديان المقارنة بجامعة منّوبة الأستاذ فوزي البدوي، وقد شهد اللّقاء متابعة وحضورًا مكثّفين من الباحثين والطّلبة والمثقّفين. وتمحورت المحاضرة حول سياق الحداثة الأوروبيّة والأنوار الألمانيّة، وتأثيرها في نشأة حركة الإصلاح اليهوديّة (الهسكالا).
وبيّن الأستاذ البدوي في البداية، كيف أنّ تاريخ اليهود كان منصبًّا على (الهالاخا)؛ أي الأحكام الدّينية المتمثّلة في الفقه، وبالتّالي فإنّهم لم يعرفوا فكر النّهضة، ومرّوا مباشرة من مرحلة القرون الوسطى إلى مرحلة الأنوار، بعد احتكاكهم بالأنوار الألمانيّة، وقال إنّ ذلك مثّل بالنّسبة إليهم "صدمة" على المستوى الفكري والفلسفي، ثمّ على المستوى السّياسي وعلى المستوى المعرفي والعلمي. وقد بيّن أنّ تلك "الصّدمة" نشأت أساسًا عن تبلور فكرة "الذّات" في أوروبّا وما تعلّق بها من إضفاء قيمة على الفرد ودوره ووجوده، مشيرًا إلى أنّ "ظهور فلسفة الذّات كان له نتائج عظيمة على المستوى السّياسي ارتبطت بفكرة العقد الاجتماعي" كما كانت له نتائج أيضًا على مستوى تمثّل الفرد في الثّقافة الدّينيّة اليهوديّة التي كانت تخلو من ذلك؛ فقد كان الاهتمام بالفرد في اليهوديّة القديمة كما في الإسلام، جزئيًّا ومن زاوية التّناغم مع الأحكام الإلهيّة، وردّ ذلك إلى صعوبة تعامل الفرد اليهودي الخاضع لأحكام "الهلاخا" مع المبادئ والأفكار التي صاحبت ظهور مفهوم الدّولة الأمّة، مثل فكرة المواطنة والقانون.
واعتبر البدوي أنّ القرن الثّامن عشر كان له تأثير كبير في ظهور حركة الإصلاح اليهوديّة؛ فقد حمل تغييرًا كبيرًا مفاده أنّ البحث في الطّبيعة صار مرتبطًا بالنّفعيّة، كما حمل بوادر الحداثة الغربيّة في المستويات السّياسيّة والفلسفيّة والاجتماعيّة والعلميّة، وظهر في المستوى السّياسي الفصل بين السّياسة والأخلاق (الإيطيقا)، كما ظهرت فكرة الحق الطّبيعي وفكرة الدّين الطّبيعي، وهو ما جعل اليهود الإصلاحيّين يتساءلون عن كيفيّة التّوفيق بين الدّين اليهودي وبقيّة الأديان الأخرى، وقال البدوي: "إن كلّ تلك الأحداث خلقت صدمة في الوعي اليهودي في القرن الثّامن عشر"، وانجرّ عنها ردود أفعال متباينة بين المساهمة في ما يحدث والانخراط فيه، واكتساب صفة المواطنة أو لزوم العزلة والانكفاء على الذّات، أو الانتظار والتّرصّد لما ستنتهي إليه الأمور، وبيّن أهمّية السّمة التي ميّزت الأنوار الألمانيّة عن الأنوار الفرنسيّة، قائلاً إنّ الأنوار الفرنسيّة كانت مناهضة للدّين بشكل عام، على عكس الأنوار الألمانيّة التي لم تكن في جوهرها معادية للدّين على اعتبار أن جزءًا من المهتمّين بها هم من المتديّنين، وقد ردّ ذلك إلى قابليّة اليهود للانخراط في تلك الأنوار.
وعرف البدوي الهسكالا (Haskalah) بأنّها تعني التّدبّر والفهم واليقظة إزاء كل ما يحدث في المجتمع الألماني آنذاك، وقال إنّها كانت تمثّل بالنّسبة إلى اليهود الحل الأخير للاندماج والانصهار في المجتمعات الأوروبيّة. وأنّها مثّلت مرحلة التّغيير والنّهضة الدّينيّة والفكريّة التي شملت الترّاث اليهودي في جميع مجالاته، حتّى يكونَ منفتحًا على العالم التّنويري الأوروبي الذي يمجّد العقل، ويعتبره أساس المعرفة والأخلاق بدلاً عن الدّين، وفي المقابل الثّورة ضد الأعراف والتّقاليد الدّينيّة التي أبعدته عن ركب التّطوّر والحضارة الإنسانيّة، وبيّن انطلاقًا من ذلك أنّ المجتمع اليهودي الذي يعيش بين أسوار الجيتو، لم يجد بدًّا من أن يُساير التّنوير الذي حَرَّر العقول الأوروبيّة، وأن يخرج من عزلته؛ فكان من نتائج ذلك تعريف اليهود على أنّهم طائفة دينيّة لا قوميّة، وإنكار عقيدة البعث والحياة الآخرة، واعتبار أنّ اليهودية ليست جنسيّة، وإنّما هي عقيدةٌ ودينٌ فقط، واعتبار أنّ التّوراة ليست وحيًا من الله، بل هي من صُنع الإنسان، والدعوة إلى الانفتاح على بقية الأديان الأخرى...
وقد بيّن المحاضر أهمّية ما قام به اليهود المؤسّسون لهذه الحركة الإصلاحيّة، مخصّصًا القول حول موشي مندلسون، الذي استطاع أن يؤثّر في الطّوائف اليهوديّة من خلال دعوته إلى التّخلّي عن العقائد اليهوديّة والطّقوس الدّينيّة القديمة؛ وقد أعاد من جديد صياغة العقيدة اليهودية، وعالج مسألةَ التّسامُح الدّيني، وهاجمَ التعصُّب اليهودي، بهدف تخليص اليهود من وضعهم المتخلف، ومُحاولة دَمجهم في الثقافة الأوروبيّة؛ واعتبر البدوي أنّ اليهوديّة التّقليديّة قبل موشي مندلسون كانت غائبة عن مناقشة الحداثة الأوروبيّة في جوانبها الفلسفيّة والسّياسية والعلميّة.