محاضرة محمد الصغير جنجار: "بروز الفرد الحديث وحرياته الفردية في المجتمعات المغاربية"
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقرّ مؤمنون بلا حدود وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعية، بتونس العاصمة، يوم الجمعة 5 أفريل الجاري، المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد الصغير جنجار، بعنوان: "بروز الفرد الحديث وحرّياته الفرديّة في المجتمعات المغاربيّة"، وأدار اللّقاء الأستاذ نادر الحمّامي.
بدأ الأستاذ جنجار مداخلته بالإشارة إلى أهمّية المقاربة السّوسيولوجية حول الفرد في إطار التّحوّلات التي عرفتها بلدان المغرب العربي، وبيّن أنّ البحث السّوسيولوجي اهتمّ، انطلاقا من ذلك، بتوضيح المقصد من مقولة الفرد، على اعتباره العنصر الجوهري في جميع التّحوّلات من ديمقراطيّة ومواطنة وحداثة وغيرها. كما بيّن أنّ النّزعة الفرديّة أو الفردانيّة تُعدّ حلقة أساسيّة لتصوّر بروز نوع من العلاقات الجديدة داخل المجتمعات، مختلفة عمّا يسمّى العلاقات الميكانيكيّة أو الأوّلية المحدّدة للفرد، وعلّل ذلك بأنّ البحث السّوسيولوجي حينما بدأ بالاشتغال حول مسألة الفرد، اهتمّ بالفرد الحديث دون محدّداته القديمة الما قبل حداثيّة، على اعتبار أن الفرد القديم الذي كانت له محدّدات ثابتة، هو مختلف تماماً عن الفرد الحديث، لأنّ هذا الأخير يصنع محدّداته الذاتيّة المتغيّرة باستمرار.
كما أشار جنجار إلى السّياق السّوسيولوجي العربي الحديث منذ عصر النّهضة، وقال إنّه يتعامل مع مسألة الفرد انطلاقا من مفاهيم مستمدّة من السّياق الغربي الأوروبي، ويحاول البحث لها عن مكان في المجال اللّساني العربي، ما يثير الكثير من الإشكاليّات في التّطبيق والتّمثّل، وقدّم مثالاً، مفهوم الحرّية بين سياقه الغربي الذي انتهي إلى تشكّله بعد أربعة قرون، وسياقه العربي الذي لم يتفطّن إلى عمق المفهوم الغربي وبعده التّاريخي، وانتزعه من سياقه الفكري والقانوني وأضفى عليه بعداً ثقافيّاً مختلفاً. واعتبر أنّ المهم هو فهم "السُّمك الأساسي" لمفهوم الفرد والفردانيّة، انطلاقاً من الفهم السّوسيولوجي الذي يعتبر أنّ الفرد سلسلة من القطائع الاجتماعيّة مع الفكر الما قبل الحديث. وقال إنّ المفهوم العربي الحديث للفردانيّة هو نوع من انتزاع الفرد من العصر الوسيط الأوروبي "وكان انتزاعا دراماتيكيّا قويّاً"، تم التعبير عنه من خلال سرديات تمثلت في الذاتية الجديدة التي أفرزتها الثقافة الغربية.
وبيّن المحاضر أنّ نشأة مفهوم الفرد "أركيولوجيّاً" كان منذ الإصلاح الدّيني البروتستانتي، مع إرجاع مسألة الإيمان للضّمير الفردي، والتّفكير في أنّ علاقة الإنسان بالنّص فرديّة، وعلاقته بالربّ فرديّة، وبالتّالي بدأ الفرد يتكوّن من خلال فكرة الإصلاح الدّيني ذاتها. ثمّ في مرحلة لاحقة مع تغيّر طبيعة المعرفة في المجتمع الأوروبي، مبيّناً أنّ المعرفة ما قبل ديكارت كانت سرديّات تُنقل من جيل إلى جيل، أي تُحكى، بينما هي عند ديكارت معرفة جديدة تنطلق من الذّات التي تفكّر. وخلص من ثمّ إلى عدم إمكان فهم الفرد الحديث دون التّعمّق في فهم حلقة القرن الثّامن عشر وفلسفة الأنوار في بناء المفهوم الجديد للفرد، إضافة إلى فهم مأسسة السّياسي بعد أن صار الإنسان منتجاً بنفسه للقانون الذي سيخضع له، وهو ما جعل مبدأ الفرد إلى جانب مبدأ المساواة يكوّنان الدّعامتين الأساسيّتين للفكر السّياسي الحديث.
ودرس جنجار بعض المقاربات التّاريخية لنشأة الفرد الحديث في المجتمعات المغاربيّة من خلال النّموذج التّونسي، وبيّن أنّها تنطلق من لحظة أولى هي اللّحظة الكلاسيكيّة وتعود إلى فترة الحكم العثماني، واللّحظة الثّانية التي بدأت مع إصلاحات القرن التّاسع عشر، في المجالات الضّريبيّة والاقتصاديّة، واللحظة الثّالثة هي اللّحظة الاستعماريّة، حين بدأ المسلسل التّاريخي الذي سينبثق بموجبه الفرد، الذي بدأ يتحرّر من ثقل البعد التّاريخي، وبدأ يتفرّد، واللّحظة الرّابعة هي لحظة ما بعد الاستقلال، حين أعاد النّموذج النّخبوي الوطني صياغة أوضاع السّكّان وأصبح الفرد الذي كان خاضعاً للاستعمار خاضعاً للنّخب السّياسيّة الحديثة، واللّحظة الخامسة تبدأ من منطلق الثّورة التّونسيّة وتأسيس الدّستور الجديد، وما رافقه من نقاش حول خصوصيّات الفرد التّونسي الحديث. وأشار إلى أنّ ما يغيب عن المؤرّخ في مثل هذه المقاربات التي تعيد رسم الحلقات التّاريخية المتسلسلة لفكرة الفرد، هو أنّ تشكّل الفرد وراءه تغيّر للذّهنيّات والثّقافة والمرجعيّات والمفاهيم الأساسيّة وهو ما تبرزه السّوسيولوجيا، وأكّد على أنّ نظريّة الفردانيّة مرتبطة بسرديّة الحداثة، وأنها تنشأ في المجتمع وتتطوّر بقدر توسّع مجالات اختيار الفرد، وأنّها بذلك لا تنشأ من فراغ، وأنّ الفرد يعتمد على موارد رمزيّة ومادّية متعدّدة ليبني فردانيّته.
وعرض محمد الصغير جنجار، من ثمّ، ما أسماه مؤشّرات تحقّق الفردانيّة في المجتمعات الحديثة، من المنظور السّوسيولوجي، ومن بينها بناء الثّقة بين الأفراد والاندماج في المجتمع والفعل الجماعي والالتزامات داخل المجتمع، واعتبر أنّ هذه المؤشّرات تزداد بقدر ازدياد الفردانيّة. وقدّم بعض نتائج الدّراسات التي أجريت في الغرب حول توسّع مفهوم الفرد، والتي تبيّن أنّ مؤشّرات بروز الفرد تفيد في بيان مجالات توسّع الفردانيّة والاختيارات القيميّة، وعلاقة الدّين بالفردانيّة وجغرافيّة الدّين من خلال خارطة انتشار الأديان، وقال إنّ هناك علاقة بين طبيعة الدّين والتّديّن وطبيعة بروز الفرد، وخلص إلى أنّ المجتمعات التي تتمتّع بأكبر قدر من الفردانيّة هي تلك الأكثر إنتاجاً لعناصر الثّقة بين الأفراد.