محاضرة محمد الشيخ: "الفكر العربي الإسلامي وعوائق التنوير"
فئة: أنشطة سابقة
أكد الباحث المغربي محمد الشيخ أن الفكر العربي الإسلامي تضمن في بعض محطاته التاريخية بعضا ممن دعوا إلى تنوير الذات ولتبني مبادئ التنوير عبر مصارعتهم لكل فكر تظليلي يسعى لفصل الانسان عن اتخاذه قرارات ذاته بكل حرية، والتفكير في كل شيء هو مسؤول عنه، بخلاف أولئك الذين دعوا لتعطيل العقل ووقف تحريك إرادتهم ومشيئتهم، وربط شؤون حياتهم كلها فقط بالمشيئة الإلهية وحتمية الارتباط بالقضاء والقدر التي تسير كل شؤون الإنسان حسب حد إدراكهم.
وأوضح المتخصص في الفلسفة في محاضرة بعنوان "الفكر العربي الإسلامي وعوائق التنوير"، احتضنها "صالون جدل" بمقر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" بمدينة الرباط، مساء أمس السبت 8 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، أن هؤلاء المتحكمين في الفكر العربي الإسلامي من فقهاء وغيرهم، مازالوا اليوم بيننا ولو بأفكارهم التي علقت في ثقافاتنا المجتمعية، شئنا أم أبينا، صانعة نوعاً من الحواجز والحدود التي تعيق التفكير التنويري الحقيقي، كي يستزيد منه المجتمع والفرد العربي والإسلامي.
فهم التنوير ونقده
وتوقف المحاضر عند بعض معاني "التنوير" أو ما يرادفه من معان من قبيل الأنوار والتنور، والذي يرد في لغات أجنبية عديدة، كـ Enlightenment في الإنجليزية، أو lumières في الفرنسية، أو Erleuchtung في الألمانية، انطلاقاً مما تضمنته التأريخ اللغوي أو القواميس اللسانية في اللغة العربية، والذي يفتقر حسب رأيه إلى أي معنى حقيقي يوضح الغرض والمعنى من المصطلح، ذلك أن بعض المعاني من قبيل التنوير والتنور وما إلى ذلك من المعاني العديدة في هذا الشأن، يضيف محمد الشيخ، كانت تعني الإنارة وإضاءة الشيء، بمعنى تبيينه وإيضاحه، وكذلك مفهوم الاستنارة الذي يعني اقتباس وأخذ النار من شخص ما، وقد استعمل المصطلح أيضاً في عدد من كتب التراث العربي الإسلامي، كـ "كتاب الأنوار" وكتاب "مطالع الأنوار" و"الأنوار القدسية"، "رسالة الأنوار"، ولكن الحاصل أن استخدامات القدامى للمصطلح يختلف تمام الاختلاف عما وصل إليه الآن من فهم بعد تأثره بالفكر الغربي.
ويرى الدكتور محمد الشيخ أن تراث التنوير والأنوار والتنور ارتبط بالتراث الصوفي بشكل كبير، من منطلق أن المتصوفة هم أكثر الناس كتبوا عن التنوير والأنوار، ولكنهم لم يكتبوا بالمعنى الذي يقصد به اليوم، فعطاء الله السكندري، كتب كتاباً سماه "التنوير في إسقاط التدبير" والذي سلك فيه مسلكاً مناقضاً بالتمام والكمال للمراد به اليوم، فإذا كان التنوير اليوم قد بني على تدبير الإنسان لشؤون حياته، باعتباره المسؤول عنها، فإن التنوير عند ابن عطاء الله السكندري، مبني على إسقاط التدبير، لأن الله هو مدبر حياتك كلها حسب السكندري.
ظهور مصطلح التنوير
وقال الشيخ إن مصطلح التنوير، لم يعرف له معنى اصطلاحي واضح في الأدبيات العربية الإسلامية، إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما احتك العرب المسلمون بالفكر الغربي، واحتاجوا إلى التتلمذ على يد الفكر الغربي، لذلك فإننا نجد أقدم نص يرد فيه التنوير والأنوار بالمعنى الاصطلاحي هو ذاك الذي ورد في "رحلة الطهطاوي إلى باريس" التي دونها في رحلته الشهيرة.
وفي ذات السياق، يرى محمد الشيخ أن الثقافة العربية الإسلامية عرفت على مدى تاريخها مجموعة من التجاذبات بين من يأخذ بها نحو التنوير وبين من يحاول إعادتها للخلف، حيث نجد مجموعة من النماذج التي قاد أصحابها تياراً تنويرياً على مستويات عديدة، في فترة العصر الوسيط الذي كانت أوروبا تعيش فيه التقليد، وعلى الرغم من أن هذه النماذج، والتي لم تكن تعمل تحت مصطلح التنوير بمسماه إلا أن ما كانت تقوم به كان يندرج تحت مفهوم التنوير، ولو على قلة هذه النماذج إلا أن أصواتها كانت ترتفع لتنادي بالمبدأ.
نماذج غير متنورة
لماذا لم تنجح مثل هذه المحاولات التنويرية؟ هو سؤال كان حاضراً بشكل جلّي في محاضرة الدكتور محمد الشيخ، معتبراً أن مثل هذه الآراء والمحاولات التنويرية، بقيت أقلية في المجتمعات العربية الإسلامية، لأنها لم تكن تملك سلطة معرفية، على الرغم من أن أصحابها مفكرون وفلاسفة يجوز أن نطلق عليهم لفظة متنورين، ولأن السلطة كانت محصورة أساساً في حوزة بعض رجالات الدين غير المتنورين من فقهاء وغيرهم، والتي أرادت أن تضع حدوداً وعوائق وموانع لتفكير العقل الإسلامي التنويري آنذاك، وأن تمنعه من الانطلاق للبحث عن مساحات إبداعية أكبر، وهو الأمر الذي اشتغل عليه الكثير من الفقهاء من أجل الطمس المعرفي باستثناء بعض من انفتحوا على مجالات علمية وطبية وغيرها.
ويقرأ الباحث محمد الشيخ، المتخصص في الفكر الإسلامي الكلامي والفلسفي والصوفي، بعض نصوص ابن الجوزي، الذي كان مفكراً عربياً مسلماً، وكان من الذين يقولون بأن المؤمن يجب أن يكون مؤمناً بحدود؛ أي بوضع عوارض وحدود لإيمانه.
وبالمحصلة، يرى الباحث محمد الشيخ أن علاقتنا بتراثنا كانت السبب وراء هذا التأخر التنويري، على الرغم من بدء بوادره باكراً في التاريخ العربي الإسلامي، مضيفاً أنه عوض أن يحيا التراث فينا، مادام التراث لا يمكنه أن يفصل عن أية ذات، أصبحنا نحن نحيا في التراث، حيث كلما حل بنا شيء ما، فإن العقل الجمعي فينا سيبحث له عن نظائره في التراث، فإن لم يجد، فإنه يحكم عليه بالتبديع والتفسيق والتكفير، ومؤكداً أن المشكلة ليس في كوننا هل عرفنا التنوير أم لم نعرفه، ولكن في مشكلة أننا لم نفهم التنوير ولم نشجع ما ظهر منه، حتى ينمو فينا وفي فكرنا ليكسر تلك العوائق والحواجز التي وضعها لنا من أرادوا للفكر العربي أن يبقى بعيداً كل البعد عن أية محاولات للتفكير أو التدبير أو التسيير، رهينين فقط بما هو قادم من السماء في مشيئة الله والقضاء والقدر، وهذا الفكر مازال يعيش بيننا إلى يومنا هذا، ربما دون أن ننتبه له أو نحاوله إبعاده عنا.