ندوة ''الاجتهاد الإنساني في فهم العقائد الدينية"
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقر جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية ومؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بتونس العاصمة، الأربعاء 15 يونيو الجاري، سهرة فكرية تحت عنوان "الاجتهاد الإنساني في فهم العقائد الدينية"، توزعت على ثلاث مداخلات، بإدارة د. نادر الحمامي، وبحضور ثلة من المثقفين والأكاديميين.
وافتتحت الجلسة بمداخلة د. يوسف السهيلي التي حملت عنوان "ثورة الدين الطبيعي عند جون جاك روسو"، فنزّل بداية موضوع المداخلة في إطار "فلسفة مضادة للنسق"، ضمن فلسفة روسو التي تتكون من أربعة أركان أساسية، وذكرها كالتالي: ركن التربية، وركن الدين، وركن الأخلاق، وركن السياسة، ثم قدّم الدين الطبيعي بقوله: "هو آونة من الآونات الأربع الآنفة".
وأشار في سياق تفصيل ذلك وفحص تداخل تلك الأركان الأربعة إلى أن ما يذكره روسو في اعترافاته من أن كل شيء يرتبط جذريا بالسياسة، الأمر الذي يجعل من الحديث عن أحد الأركان معزولا عن البقية غير مجد. وقال إن الحديث عن ثورة روسوية في المجال الديني قد يبدو من باب اللامعقول بالقياس مع جملة الأحكام والإدانات التي استصدرتها الكنيسة ضد روسو بتهمة الترويج للكفر والتجديف وملاحقته سياسيا وحرق كتابيه ''إيميل'' و ''العقد الاجتماعي''، ثم بيّن أن ذلك لا يمكن أن يحجب الثورة الحقيقية التي أحدثها روسو في المجال الديني، بل وفي المجالات الأخرى التربوية والسياسية والأخلاقية. واستند في تحليل ذلك إلى القيمة النظرية والقيمة العملية اللتين لا تقلان في نظره عن الثورة الكوبيرنيكية فإذا كانت ثورة كوبيرنيك تعمل على القطع مع نظام الكوسموس واستبدال مركزية الأرض بمركزية الشمس واستبدال اللاعلم بالعلم، فإنه يمكن ملاحظة ثورة مشابهة في المجال الديني، تقطع مع المصادر الغيبية والماورائية للألوهية، وتشرّع للاجتهاد الإنساني في حدود العقل وبكامل الحرية، وخلص من ذلك إلى بيان معاني الدين الطبيعي لدى روسو بالاستناد إلى الإشكاليات التالية التي رتّبها في نقاط ممنهجة ومتتالية:
ما الدين الطبيعي عند روسو؟ وما هي أسسه ومبادئه؟ وفيما تكمن ثورة الدين الطبيعي، وما هي مظاهر العقلانية فيه؟ وما علاقة الدين الطبيعي بالدين المدني؟
انطلق في تفصيل تلك النقاط الإشكالية من مبدأ روسو القائل بأن لا دين دون تربية ولا تربية دون دين، وقدم أمثلة عن ذلك، واستخلص أن الدين الطبيعي هو دين العبادة الباطنية لله، وهو دين الواجبات الأزلية للأخلاق وهو دين الانسان، وأشار إلى أن الدين الطبيعي عند روسو يوجد في الائتلاف بين الضمير والعقل والحرية. واستنتج من ذلك أن الدين الطبيعي ليس، أبدا، مسألة غيبية وما ورائية ولكنه مسألة فردية ووجدانية. وبين أن روسو يختزل مبادئ الدين الطبيعي في ثلاثة؛ وهي أولا وجود إرادة تحرك الكون والطبيعة، وأن علة الحركة لا توجد في المادة بل توجد خارجها، وثانيا أن الحركة تدل على عقل محرّك، وثالثا أن الإنسان حر في أفعاله، وأنه متحرك بجوهر روحاني.
وفي بيان مظاهر ثورة الدين الطبيعي، أشار إلى بعد العقلانية ووصفه بأنه بعد حداثي ثوري يكمن في الثورة على المادية المحدثة، والقطع مع جملة من المفاهيم من قبيل الصدفة والمادة المفكرة والمتحركة بذاتها، لأنه يعتبر أن الوضع الطبيعي للمادة ليس الحركة بل السكون. وأشار إلى أن روسو قطع مع مسلمة الخطيئة الأولى أو مسلمة الشر التاريخي، والتي تعبّر عن تصور لاهوتي مسيحي يرجع كل شيء إلى الخطيئة التي ارتكبها آدم، وأعاد ذلك إلى أن روسو يرجع الشر إلى المجتمع وإلى قابلية الإنسان للاكتمال، وأنه يرفض كل المعجزات؛ لأنه يعتبرها من قبيل اللامعقول. وخلص إلى أن روسو يؤكد على الحاجة إلى دين مدني يضبط جملة من المعتقدات غير القابلة للتقادم، ومن ثم فللسياسة أن تضع عقائدها الخاصة بها في محك المجتمع، ومن ثم انتهى إلى أن الدين المدني لدى روسو ليس الدين زائد شيء ما، بل هو دين جديد هو دين الحرية السياسية والسلم الجماعي ووحدة الإنسانية.
ثم أحيلت الكلمة إلى دة. كريمة بريكي لتقدم مداخلتها بعنوان "نظرية تناسخ الأرواح وأشكال خلود النفس البيروني منطلقا" فبيّنت أنها تنطلق من البيروني، لتدرس عقيدة تناسخ الأرواح لأربعة أسباب رأتها أساسية، وأوّلها أن البيروني اعتبر من قبل الدارسين له أول الأنثروبولوجيين، وثانيها أن تناول البيروني لهذه الظاهرة أقرب ما يكون إلى المقاربات الأنثروبولوجية الحديثة التي تقف على الدواعي التي تحف بنشوء ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية، وثالث الأسباب التي عددتها المتدخلة هو أن البيروني حاول بيان أن هذه الظاهرة تخترق الخصوصيات الثقافية، لتشير إلى ما يوحّد الإنسانية. أما السبب الرابع الذي أشارت إليه، فهو أن البيروني درس الثقافة الهندية عن قرب وتعلم لغة أهلها.
وخلصت من ذلك إلى الاهتمام بالموضوعات التي يطرحها كتاب البيروني ''تحقيق ما للهند من مقولة'' فعدّدت المحاور التي تطرّق من خلالها البيروني في كتابه إلى مسائل الثقافة الهندية وهي أربعة، محور توصيفي، ومحور تفسيري، ومحور أنثروبولوجي، ومحور تاريخي. وعملت بعد ذلك إلى تفصيل كل محور على حدة، وتحليل التعامل الذي أضفى من خلاله البيروني على الثقافة الهندية بعدا تمييزيا استطاع من خلاله رصد أوجه الاختلاف بين الديانات والعقائد.
ثم عرضت في خلال ذلك إلى تحليل مفهوم تناسخ الأرواح لدى البيروني، فقالت إنه يعني ارتقاء النفس من طور إلى طور ومن الأرذل إلى الأفضل، ومن ذلك أن التقدم في سبيل المعرفة يمثل ارتقاء في سلم قيم الوجود، لذلك بدا للبيروني أن النفس المتطورة والمترقية في سلم المعرفة كأنما هي نفس جديدة في كل مرتبة وفي كل مقام ترتقي إليه، وبينت ما يحيل إله المفهوم من أن ارتقاء النفس في مراتب المعرفة يدل على شرف ذاتها وينتهي بها إلى مرحلة "القوامة الذاتية"، وقدمت ذلك على صورة تكون الإنسان من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود.
وخلصت بعد ذلك، إلى التأكيد على أهمية تلك الإشارات التي تعمق النظر في المقالات التقليدية التي تذهب إلى حد القول بالتناقض التطاحني بين الروح الغربية والروح الشرقية، وبين القدس مملكة الحياة الروحية وأثينا مملكة الفكر العقلاني. وقد أشارت في هذا السياق إلى الثنائية التي قامت عليها فلسفة أفلاطون؛ أي ثنائية الروح والجسد، ووظفتها في سياق بيان العلاقة التي تترتب عن القول بتناسخ الأرواح في ارتباط بالأرضية الفكرية والثقافية والفلسفة التي ينطلق منها ذلك الاعتقاد أو يستند إليه، وأن الهاجس في النهاية كان هاجس الخلود بغض النظر عن اختلاف تمثل عقيدة تناسخ الأرواح بين الثقافات.
وتناول عقب ذلك د. حمادي بن جاب الله الكلمة، ليقدم مداخلته بعنوان ''المجازات الدينية في ضوء تاريخ العلوم''، فانطلق من اعتبار مبدئي يقول بأن الكتب السماوية ليست كتب علم، وأنها لن تكون سبيلا لاكتشاف المعرفة، حيث يمكن لتاريخ العلم، باعتباره يعنى بماضي العلم أن يدل على معانيها، بل إن ماضي العلم والنصوص المقدسة يتنزلان معا في بنية ثقافية متراشحة المكونات متصادية الأجزاء، باعتبار أن الأنبياء أنفسهم إنما بعثوا بلسان قومهم من ناحية، وأمروا بمخاطبة الناس بما يفهمون من ناحية أخرى. وأشار بعد ذلك إلى أنه يوجد في تاريخ العلوم ما يمكن أن يدل على المتصل الثقافي الذي عنه تفرع النص المقدس، ولذلك كان المفسرون كثيرا ما يلجؤون إلى كلام العرب قبل الإسلام، لفهم ما يمكن أن يكون معنى لفظ أو آية من القرآن، وقدّم مثالا عن ذلك إلحاح ليبنيتز، في القرن السابع عشر، لإعادة ترجمة القرآن رغم رفض الكنيسة لذلك، وكان محتجا بأن ذلك سيساعد في فهم الأناجيل بطريقة أفضل، وأعيد فعلا ترجمة القرآن وبدأ الاستشراق الألماني مع ليبنيتز، وقدم أمثلة عن كيفيات تفسير بعض آي القرآن، وبعض الألفاظ وبعض الحروف.
وقد توصل إلى نتيجة أولى، وهي أن معرفة اللغات القديمة مثل العبرية واليونانية والفارسية والسريانية خاصة تعد من ضرورات شروط استيفاء فهم القرآن، وقال في هذا السياق: ''مادام المسلمون يجهلون هذه اللغات ويصرون على جهلها فإنهم سيواجهون باستمرار صعوبات في فهم نصهم المقدس''.
وحاول في القسم الثاني أن يسخّر تاريخ العلوم لمحاولة فهم العقيدة الدينية أو ما سماها بـ"المجازات الدينية" من خلال محاولة تنزيل العقائد في المناخات الفكرية والثقافية التي نزلت فيها، وطرح العديد من الاستفهامات التي تنتج عن العلاقة بين العلمي والأسطوري، والعلاقة بين العلمي وقبل العلمي، وبين العلمي واللاعلمي.
أما النتيجة الأخرى، التي توصل إليها، لأهمية تاريخ العلوم في محاولة فهم الظواهر العقدية، هي أن التاريخ المتعلق بالعلوم هو تاريخ قطيعات إبستيمولوجية، سواء منها القطيعة المؤسسة أو القطيعة التي تعيد التأسيس. وعلى هذا النحو قدم تاريخ العلوم، باعتباره ينقسم إلى ماض لاغ وماض مضى أي أصبح واقعا ملزما، وقدم مثالا عن ذلك أن هندسة إقليدس هي في الماضي ولكن هذا الماضي لم يزل حاضرا بقوة في فكرنا إلى اليوم. أما فيزياء أرسطو، فهي فيزياء لاغية لم تعد لها أية قيمة مثلما هو الحال بالنسبة إلى طب ابن سينا الذي أصبح من الماضي اللاغي وليس من الماضي الناجز.
وتوصل إلى نتيجة أخيرة، وهي أنه لا يستقيم القول بالتحولات العلمية أو بالثورات العلمية دون أن يكون أثرها بينا في النظام الفكري العام؛ أي أن الثورة العلمية تنعكس على جميع مكونات البنية الثقافية فلا يمكن بهذا الحال أن يعيش الإنسان في القرن الواحد والعشرين، وهو يفكر أخلاقيا وسياسيا بفكر القرون الوسطى، وأشار في تحليل ذلك إلى أن الثورة العلمية تحرك المنظومة الكونية كلها. وقياسا على هذه النتيجة الأخيرة أكد أن "لا شأن بكل المقاييس للألوهية عامة وللرب الإسلامي بالعلم لا من قريب ولا من بعيد" وليس ثمة برهان ممكن وجوده في تاريخ العلوم على وجود الله أو برهان ممكن لبيان عدم وجود الله، وفسر ذلك بأن الإله عامة والإله الإسلامي الذي ليس كمثله شيء في تعاليه لا يمكن أن يكون موضوع علم ما؛ وبهذا انتهى إلى تأكيد أنه لا يوجد إيمان بدليل علمي ولا كفر بدليل علمي.
وختمت الجلسة بتدخلات بعض الحضور طالت بعض النقاط الواردة في مداخلات المحاضرين، ومن بينها أن الدين الطبيعي الذي تحدث عنه جون جاك روسو هل يصلح بإنسان المدنية أم بإنسان الطبيعة؟ وفيما إذا كان "دين الإنسانية'' أقرب حقا إلى طرح روسو والحال أننا نجده في فلسفة أوغست كونت، كما تمت الإشارة إلى طبيعة الطرح المنهجي في مداخلة د. بن جاب الله... وقد استعاد المتدخلون بعد ذلك الكلمة للتعقيب على تلك النقاط المثارة في النقاش.