ندوة: "الفلسفة السياسية ودورها في توجيه الحياة العملية"
فئة: أنشطة سابقة
باحثون يناقشون دور الفلسفة السياسية في توجيه الحياة العملية
"كان ماركس بعيداً عن التنظير لمفاهيم الفلسفة السياسية، بخلاف حنا أرندت" التي للمفارقة "لا تعتبر نفسها فيلسوفة"، و"لا دور للفلسفة في التأثير النوعي على الفعل السياسي في واقعنا العربي". هذه بعض خلاصات الندوة العلمية التي نظمتها مؤسسّة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في موضوع "الفلسفة السياسية ودورها في توجيه الحياة العملية"، شارك فيها كل من الدكتور عبد الحي المودن والدكتور رشيد العلمي، في لقاء سيره الدكتور عبد الرحيم العلام.
وراهنت الندوة التي احتضنها صالون جدل الثقافي بمقر المؤسسة (الرباط) على التدقيق في الأدوار التي اشتهرت بها الفلسفة السياسية من أجل مساءلة واقعنا المعاصر في ارتباطه بالمعرفة العلمية؛ إذ حاول الذين ربطوا الفلسفة بالسياسة الإسهام في إيجاد حلول للمسائل التي يدور حولها نزاع عميق، والنظر في ما إذا كانت هناك قاعدة أساسية يمكن اكتشافها لاتفاق فلسفي وأخلاقي، أو العكس (راولز). وكذلك بحث مساهمة الفلسفة السياسية في كيفية تفكير الناس في مؤسساتهم السياسية والاجتماعية. فضلاً عن الإسهام المهم الذي قدمه فلاسفة السياسة بُغية تهدئة الإحباطات والغضب الكامن في المجتمعات، أو ما كان يسميه هيجل بدور التسوية.
رشيد العلمي: في الحاجة إلى درس هابرماس
افتتح اللقاء العلمي بمداخلة رشيد العلمي، من خلال عقد الربط بين السياسة والفلسفة، ودور هذه الأخيرة في تحديد معالم السلطة منذ القدم، حيث وضع تصورات حول ما ينبغي أن يكون، معتبراً أنه إذا كانت نتائج العلم تتسم بالضبط والدقة، وهناك معايير لقياسها والتأكد من صحتها، فإن الفلسفة تدعو لوضع تصور عام، لا يملك الفيلسوف إلا الحجج العقلية التي يمكن أن يؤكد من خلالها صدق تصوراته، فعندما أسس أفلاطون لجمهوريته المثالية، كان يسعى بالأساس إلى خلق تصور حول كيف يمكن للعالم أن يتواجد، مع تنظيم محدد للعلاقات والأفراد.
كما قدّم المحاضر تصوراً عن الفلسفة السياسية بناء على الإرث اليوناني، معتبراً أن نشأة الفلسفة السياسية بدأت من خلال الحياة السياسية التي وجدت عند اليونان، وقد جسّد هذه الرؤية انطلاقاً من سقراط، الذي اختار العيش في المدينة والموت فيها، مؤسساً للحقيقة ومجسداً للدور الأساس الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في بناء الفكر وصياغة المعنى، وتحديد للسياسة المنبنية على ترتيب العلاقات بين الناس، في سياق رقعة معينة، وبمبادئ مُحددة، وهنا لعِب سقراط دوراً سياسياً وفلسفياً مهماً في نشر المعرفة بين الشباب ودعوتهم لتمحيص الواقع وطرحه تحت مطرقة النقد والعقل، مما فتح عليه "نيران جهنم"، غير أن إقراره على الموت في المدينة وليس خارجها، كان دليلاً عقلياً ومؤسساً على أن النظام السياسي السليم التغيير المنشود، يجب أن يكون من الداخل وليس من الخارج، من هنا يتضح أن اختياره المدينة لم يكن عبثاً.
تأسيساً على ذلك، يتضح، حسب المحاضر، أن الفلاسفة اليونانيين وعلى رأسهم سقراط، خلفوا لنا الكثير من القواعد التي كونت فن السياسة انطلاقاً من الواقع وليس تعاليا عليه؛ أي وضعوا تشريعات معينة تبين طرق الحكم المختلفة التي اتبعوها.
كما توقف المحاضر عند أدبيات الفيلسوفة الألمانية حنا أردنت، والتي للمفارقة، حسب المحاضر، كانت تؤكد أنها ليست فيلسوفة، وإنما مُنظرة سياسية تبحث عن مفاهيم لقراءة بعض الظواهر السياسية التي عايشتها، وخاصة الظاهرة الشمولية والنازية وغيرها، ومن هنا أهمية المفاهيم التي طورتها في سياق التحليل السياسي.
وأضاف العلمي، أن الجمع بين الفلسفة والحقيقة يفترض أنك تنطق بالحقيقة، وأن المجتمع المنشور سوف يمثل الحقيقة، لأنه "المجتمع الحق"، وبالتالي سوف يتعامل مع المجتمعات الأخرى على أساس أنها غير فاضلة، وهذا التصور أو الفهم هو الذي يؤسس لتصور شكولي، يرفض الآخر في نهاية المطاف، ويرفض المجتمعات الأخرى.
والحال، يضيف العلمي، أنه يجب الاستفادة من التاريخ للوصول إلى خلاصات فلسفية، ومن هنا أهمية ما اشتغلت عليه حنا أرندت، ما مكنها من الوصول إلى خلاصات سياسية وفلسفية، أهمها أن الفعل السياسي فعل مؤسس للإنسانية، وهذه فكرة متجاوزة لماركس الذي كان يعتبر أن السياسة مرحلية، وتعبر عن صراع عابر ومرحلي.
هل كان للفلسفة السياسية تأثير على العمل الحكومي مثلاً؟ سؤال جوهري سوف يختتم به العلمي مداخلته، مُعرجاُ على اجتهادات وكتابات يورغن هابرماس، الذي يُعتبر أحد المنظرين للديمقراطية في ارتباطها بمفهوم المجتمع المدني، حيث لاحظ هابرماس أن ما لاحظته حنا أرندت عن تفكك الأسر والعلاقات الإنسانية، يتطلب العودة إلى مفهوم المجتمع المدني والإيمان بمبادئ الديمقراطية التشاركية، وهذا ما يجعل أهم الباحثين يخلصون إلى أن أرندت تعد ممن ألف في الفلسفة الأخلاقية، والتي أفرزت الانتصار لمفاهيم حقوق الإنسان، منها حقوق الطفل وحقوق المرأة، إلى موضوع أخلاق الأبحاث العلمية الخاصة بالجنين، والتي أفرزت مثلاً النقاش الدائر حول القتل الرحيم وغيرها من المفاهيم التي تدرج وتصنف في خانة الفلسفة الأخلاقية.
عبد الحي المودن: غياب تأثير الفلسفة على السياسة
أما بالنسبة إلى مداخلة عبد الحي المودن، فقد انطلق فيها من مفاجأة الحضور برد كان صادماً على سؤال المحاضرة: ما هو تأثير الفلسفة على الفعل السياسي؟ معتبراً أنه ليس هناك تأثير كبير على هذا الأداء، ومضيفاً أنه إذا كان الأمر كذلك، فيتطلب منا، إذن، التوقف عند سؤال أهم: لماذا تصلح الفلسفة إذن [وهذا سؤال جديد/ قديم، لأنه سؤال ظهر منذ فجر الفلاسفة الأوائل عبر التاريخ].
واعتبر المحاضر أن الجواب الذي افتتح به مداخلته قد يكون محبطاً عند البعض، وخاصة بالنسبة إلى الذين يؤمنون أن الفلسفة بوابة المعرفة والأسرار، ولكن الأمر مختلف مع الفعل السياسي، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الفعل السياسي المجتمعي، من خلال الأحزاب السياسية، موجهاً الدعوة إلى التفكير الجماعي، خاصة أن الفلسفة تشتغل أساساً على معرفة الحقيقة. والأدهى، يضيف المحاضر، أن المعطيات الإمبريقية، ليست سوى إشارات قد تكون متضاربة في الحقيقة، إضافة إلى ثقل المشاعر والأحاسيس التي غالباً ما تكون غير موضوعية في معرض التعليق والتفاعل مع إحدى ظواهر الساحة.
وأضاف المودن، أنه لكي نصل إلى الحقيقة، لا مفر من التعالي على الواقع والتاريخ معاً، لأن الحقيقة غير واقعية وغير تاريخية في آن، وبالتالي تبقى متعالية على المجتمع والتاريخ.
ووجه المحاضر انتقادات عدة إلى مجموعة من الحقول العلمية التي إن اشتغلت على تسطير القوانين والقواعد التي تساعدنا على تفسير العلاقات السببية بين الظواهر، ومعرفة ما سيحدث في المستقبل، عبر توظيف المعطيات الإحصائية، انتقد أيضاً الوجه الآخر للتقدم التكنولوجي والثورات العلمية، والتي إن حققت مساهمات مهمة بالنسبة إلى البشرية، إلا أنها فشلت في الإجابة عن مجموعة من الحاجات المرتبطة بالإنسان، منها أسرار الكون والعالم الآخر، كما أن العلوم الاجتماعية فاشلة في التنبؤ بالأحداث المستقبلية، بل، يضيف المودن، الخبير بالمشهد العلمي والسياسي الأمريكي، لقد فشلت هذه العلوم في عقر دارها، أي في الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها لم تتوقع مثلاً، هزيمة الفيتنام، ولم تتوقع "الثورة الإيرانية"، أو سقوط الاتحاد السوفياتي أو أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وغيرها من الأحداث.
كما توقف المحاضر عند بعض المفاهيم الفلسفية في فهم السياسي والعمل السياسي، وذكر منها مثلاً: الأيديولوجيا، العلم، الخبرة، التجربة ، البركة، الحكمة، الحدس، الذكاء والدهاء، الحظ.. إلخ.
وبعد ذلك، تساءل المحاضر مع الحضور، أن سؤال المحاضرة يبدو أكثر إثارة للقلاقل عندما نتحدث عن الساحة العربية، حيث نعيش الحداثة بتنوعها وتناقضاتها، ملخصاً الأمر في ملاحظة دقيقة، وهي غياب الفلاسفة في النقاشات المجتمعية التي تبزغ بين الفينة والأخرى (أورد المحاضر مثلاً، النقاش الدائر هذه الأيام في المغرب حول موضوع الإجهاض، والذي يتميز بغياب الفلاسفة).
واختتم المحاضر مداخلته عند بعض العوائق التي تغذي الجواب السلبي الذي افتتح به محاضرته، وفي مقدمة هذه العوائق، سؤال السلطوية، حيث اعتبر أن الفلسفة تتطلب الحرية، وبدون حرية لا يمكن الوصول إلى فكر فلسفي، وإلا تصبح الفلسفة حينها أيديولوجيا.