ندوة: "الوسطيّة: المفهوم والحدود؛ إندونيسيا وتونس أنموذجا"
فئة: أنشطة سابقة
انتظمت بمقر مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، يوم السبت 5 نونبر الجاري، ندوة: "الوسطيّة: المفهوم والحدود؛ إندونيسيا وتونس أنموذجا"، وقد قدّم خلالها د. سوبري يانتو (من إندونيسيا) مداخلة بعنوان: "ترسيخ الوسطية في الفكر الإسلامي بإندونيسيا: تجربة سياسية واجتماعية"، ثم قدّم د. توفيق وارمان محفوظ (من إندونيسيا) مداخلة بعنوان: " ترسيخ الوسطية في الفكر الإسلامي بإندونيسيا: تجربة دينية"، وقدم ذ. فيصل شلّوف (من تونس) مداخلة بعنوان: ''في حدود الوسطيّة: مراجعة مفهوم المصلحة في الفكر الإصلاحي التونسي"، وأعقب المداخلات نقاش مفتوح بين الحضور والمتدخلين.
وافتتح اللقاء بداية بكلمة ترحيبية بالضيوف والحاضرين ولمحة عن المحاضرين قدّمها الأستاذ فيصل شلوف، ثم احيلت الكلمة إلى د. سوبري يانتو، وهو مدرّس الفلسفة الإسلامية بجامعة بور ووكرتو الإسلامية الحكومية، جاوة الوسطى – إندونيسيا، وصاحب كتاب "معالم التصوّف عند فريد الدين العطار"، وكتاب "الدعوة التوفيقية لسونان كاليجاكا في جزيرة جاوة''، واهتم في أطروحة الدكتوراه بمسألة "التراث عند زكي نجيب محمود".
وأشار د. سوبري يانتو في البداية إلى أن الطبيعة البشرية تجعل النّاس أميل إلى الوسطية (موقفا وسطا) في مجالات حياتهم، وقدّم المثال على ذلك، وهو انتشار مذهب أهل السنة الأشعرية في إندونيسيا، وقبول مسلمي العالم له؛ لأنّ هذا المذهب قد اختار موقفا وسطا بين القطبين النقيضين: الجبرية والقدرية، وبين العقلانية والنّصية.
واهتم من ثم بمفهوم الوسطية في مجال العقيدة، وتساءل حول كيفيّة تطبيقه في مجالي السياسي والاجتماعي، وفيما إذا كان تطبيقه يسيرا في هذين المجالين بالاستناد إلى طبيعة المجتمع المتنوّعة وطبيعة العقائد المختلفة. وأبرز مساحات تطبيق المفهوم، قائلا إنّ الوسطية ميزة من أبرز ميزات الإسلام، مستندا إلى دعامات نصية من القرآن من مثل الآية: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكون شهداء على الناس"، ومؤكّدا أن النصّ لا يحدّد الوسطية بأمر معيّن، سواء في المجال الثّقافي، والدّيني، أو المجال السّياسي والاجتماعي.
واهتم في مداخلته من ثم بالجوانب العملية للوسطية في مجالي السياسي والاجتماعي، من خلال الإشارة إلى ما جرى به العمل في البلاد الإندونيسية، وذلك من خلال تجاربها السياسة والاجتماعية على مدى قرون طويلة، منذ عصور ما قبل الاستقلال (سنة 1945)، وبعدها. وقال إننا لا نتمكّن من معرفة هذه التجربة الإندونيسية معرفة كاملة من دون أن نأخذ بعين الاعتبار ما كان سائدا من نظم اجتماعية وسياسية، وما ألّف من عادات وقيم، وذلك لأنّ هذه الأمور كان لها دورها الفعّال في إنجاح هذه التّجربة.
وأحيلت الكلمة بعد ذلك إلى د. توفيـق وارمان محفوظ، وهو مدرّس علوم القرآن والتفسير بجامعة بلنكارايا الإسلامية الحكومية، كاليمانتان الوسطي – إندونيسيا. وقد اهتم في أطروحة الدكتوراه بمسألة "منهج الشيخ وهبة الزحيلي في التفسير"، وقدّم مداخلته بفكرة عامة عن إندونيسيا، فأشار إلى الطبيعة السكانية والمجتمعية لهذا البلد، الذي يتكون من مجموعات عرقية ولغوية ودينية مختلفة منتشرة ومتفرّقة عبر العديد من الجزر، وركّز على ما يُعرف عن الشعب الإندونيسي منذ قرون قديمة من اعتدال واحترام للاختلاف والتعايش السلمي فيما بينه.
وأرجع ذلك إلى عدّة أسباب، أهمّها دور علماء الصوفية وأهل الطّرق في نشر الإسلام في هذا البلد، وقال إن شعار إندونيسيا الوطني bhineka tunggal ika الذي يعنى "الوحدة في التّنوّع" والمبادئ الخمسة Pancasila باعتبارها أساسا للدولة، وبين من ثم دور المؤسّسات الدينية في بناء المجتمع المدني، وفي ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين سكان إندونيسيا.
وتعرّض في مداخلته إلى أمثلة عن ذلك؛ فذكر جمعيتين إسلاميتين كبيرتين في إندونيسيا، وهما جمعية نهضة العلماء (عدد أعضائها 90 مليون نسمة)، والجمعية المحمدية (عدد أعضائها 60 مليون نسمة)، ولكلّ منهما مؤسّسات تعليمية واجتماعية وغيرها، كما أنّ لهما أيضا مفاهيم إسلامية مفتوحة ووسطية، بعيدا عن الغلوّ والتطرّف.
وقدّم بعد ذلك ذ. فيصل شلوف مداخلة، اهتم فيها بمفهوم المصلحة، باعتباره جزءا من مفهوم الوسطية، وذلك من خلال بعض الأمثلة من فكر رواد الإصلاح في تونس في بداية القرن التاسع عشر، وبين أن مفهوم المصلحة لديهم قد ارتبط بالمنظومة الفقهية السنية في بعض جوانبه وارتبط في الآن نفسه بفكرة التقدّم بالأخذ عن الآخر الأوروبي، عبر مجموعة مفاهيم من بينها مفهوم الاقتباس عن الآخر، ومفهوم الاقتداء بالمنجز الغربي الذي لا يكتسب حجّيته في العالم الإسلامي من مقولات التراث، وبين كيف دافع رواد الإصلاح عن هذه المفاهيم الأساسية في فكرهم، وقدّموا الحجج والأدلة على عدم تعارضها مع الإسلام، بغاية إقناع المجتمع بضرورة الانضواء تحت ما يدعم تقدّمه وتطوّره دون التقوقع في مقولات تراثية وأصولية والاكتفاء بذلك. وقاموا في إطار ذلك بتبرير الأخذ عن الآخر عبر تقديم الواقع على النص، وبالتالي الاهتمام بمقولات تحقيق المدنية التي تستند إلى مفاهيم العدل والعمران والحرية.
وبينت المداخلة كيف أن الفكر الإصلاحي التونسي كان يسعى إلى الارتباط بالواقع في حين أن هذا الواقع لم يكن منسجما مع الكثير من الطروحات الإصلاحية، مما أنتج في النهاية حواجز وحدودا تعيق الإصلاح وتعطّله، وأثر ذلك على تاريخية المفاهيم وإمكانيات تطوّرها بالإشارة إلى الواقع التونسي الحديث والمعاصر الذي كانت له إكراهاته السياسية والاجتماعية والثقافية، ما جعل فكرة ارتباط المصلحة بالواقع تتعثّر، ويؤثر ذلك بالتالي في إنتاج مراجعات جديدة دائما ما تعود إلى ذات التساؤلات البدئية ولا تبني بالضرورة على ما تقدّم.
واختتمت الندوة بمداخلات نقاش من قبل الحضور اهتمت بطرح تساؤلات بناء على ما تم تقديمه، فأشار بعض المتدخّلين إلى حدود فكرة الوسطية في المجتمع الإندونيسي من خلال ما دار من ثورات واهتزازات سجلها التاريخ، مما يجعل إطلاقيه مفهوم الوسطية تتعارض في بعض جوانبها مع حركية المجتمع العقائدية والاجتماعية، كما أشار آخرون إلى مسألة التعايش في المجتمع التونسي بالاستناد إلى مفاهيم الوسطية، وطرحت أمثلة كثيرة تخص مفاهيم الحرية والاعتدال والتسامح، في علاقة بالمنظومة القانونية الوضعية من جهة والمنظومة التشريعية الدينية من جهة أخرى. وقام المحاضرون بالتعقيب على كل ذلك.