ندوة: "سؤال النهضة العربية وتجليات الخطاب الديني"
فئة: أنشطة سابقة
أجمع أكاديميون أردنيون على أن أزمات كثيرة عصفت بمشروع النهضة العربية، تمثلت في التخلف والأمية، وأزمة الحكم وغياب الحريات، إلى جانب أزمات اقتصادية واجتماعية وهوياتية.
وبينوا في الندوة، التي نظمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، بالتعاون مع مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب، في قاعة المحاضرات التابعة للمؤسسة في العاصمة الأردنية في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2016، أن الخطاب الديني لم يكن له تأثير حقيقي في تيار النهضة، فتحالف السلطة المدنية مع الدينية أورثنا خطاباً دينياً، بدا معتدلاً، وتشدد شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح تكفيرياً.
الندوة التي شارك فيها كل من الدكتور علي محافظة والدكتور جورج الفار والدكتور رحيّل غرايبة، وأدارها الدكتور يوسف ربابعة، وحملت عنوان "سؤال النهضة العربية وتجليات الخطاب الديني"، دعا المحاضرون فيها إلى "تثوير العقل الديني" ليقرأ النصوص ويفسرها برؤية جديدة ومعاصرة.
كما طالبوا بحماية "الأمن الفكري" وذلك بتحرير العقل، ليتمكن من التفكير بطريقة صحيحة، من خلال التفكر والتمحيص، لأن الحرية تسبق الدين والسلطة؛ فالله يريد من الناس أن يكونوا أحراراً، والسلطة وظيفتها حراسة الحرية، للأفراد والجماعات ومنع الاعتداء عليها، وحق الناس أن يعيشوا في بلدانهم وأوطانهم ومجتمعاتهم آمنين مطمئنين على منظومة قيمهم الدينية والفكرية وثقافتهم النوعية ومكونات أصالتهم الاجتماعية.
تشخيص الأزمة
شخّص المؤرخ الأردني الدكتور علي محافظة أسباب وعوامل فشل النهضة العربية، والتي تجلّت في أزمات عديدة؛ أهمها أزمة التخلف والحكم والإدارة، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأزمة الهوية.
وبين أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية، أن التخلف حالة عامة عاشها العرب في مختلف الميادين، رافقته أزمة داخلية شملت الحكام والمحكومين لتتشعب الأزمة السياسية؛ داخلياً وخارجيًا؛ حيث فشلت أنظمة الحكم العربية في بناء الدولة الحديثة؛ دولة القانون والمشاركة الشعبية في الحكم، وفرضت الحكم الفردي المطلق على شعوبها، وحرمت شعوبها من الحريات؛ العامة والفردية.
وأضاف أن نخباً حاكمة همها التسلط والتشبث بالحكم، والكسب غير المشروع والإثراء على حساب الفئات الفقيرة، استغلت هذه الشعوب، وقمعت كل محاولة للمطالبة بالإصلاح باللجوء إلى العنف والاعتقال والسجن والتعذيب والقتل.
أما الأزمة الاقتصادية التي أفشلت النهضة العربية، فتمثلت، بحسب المؤرخ الأردني، في عجز أنظمة الحكم العربية عن تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة والمستدامة، واستمرار حالة التخلف وفشل محاولات تجديد البنى الاجتماعية والإدارية والسياسية في المجتمعات العربية؛ حيث ظل معيار الانتماء الأسري والعشائري والإثني والطائفي والمذهبي، فضلاً عن الولاءات والشللية معياراً معتمداً للحصول على المراكز السياسية والإدارية والمواقع الاجتماعية، وليس معيار الكفاءة والإنجاز، وبقيت المحسوبية والدوافع العصبية تسودان مجتمعاتنا المتخلفة بدلاً من سيادة القانون كموجه لنمط التفكير. الأمر الذي أسهم في تدني نسب القوى العاملة وانتشار البطالة، كما تفشت ظاهرة الفقر المزمن في معظم الأقطار العربية بسبب التفاوت في توزيع الثروة الريعية في معظم الأقطار، وتراكم المديونية العربية للخارج.
أزمة أخلاقية
وتابع محافظة حديثه أن النهضة العربية واجهت أزمة أخلاقية تدور حول هوية الفرد وهوية المجتمع وهوية الأمة لتبرز أسئلة كثيرة على شاكلة: هل نحن مسلمون سنة أم مسلمون شيعة اثنا عشرية أم اسماعيليون أم موحدون دروز أم مسلمون سلفيون أم مسلمون وهابيون؟ وهل انتماؤنا الأول للوطن، أم للدين أم للمذهب؟ هل هويتنا الحقيقية هوية عربية دينية؟ وهل العروبة عرق أم انتماء ثقافي، وهل ننتمي أولاً لعشائرنا وقبائلنا أم إلى المناطق الجغرافية، التي ولدنا فيها أو نعيش فيها؟
ويرى محافظة أن هذه الأسئلة التي طُرحت للنقاش قبل مئة سنة ونيف مع بداية نهضة العرب الحديثة، عادت لتطفو على السطح من جديد، متجاهلين قرناً من الزمان نمت فيه المشاعر القومية وتجذرت، لندرك أن مجتمعاتنا العربية تقطعت أوصالها وبُترت روابطها التاريخية بفعل الحروب الأهلية وما رافقها من فوضى واضطرابات ومآسي وويلات وتمرغت سمعة العرب في الأوحال وتلوثت صورة الإسلام على يد الجهاديين السلفيين، وتدنى مستوى التعليم العام والعالي في جميع البلاد العربية ما حال دون التقدم والإبداع في مختلف ميادين العلم والفن والمعرفة.
ولأن أزمة النهضة العربية عميقة الجذور، وفق محافظة، فالخروج من هذه الأزمات يحتاج إلى تفكير عميق وحلول جريئة تتناسب مع خطورة الأزمة وتأثيرها على مستقبل أمتنا وتأثيرها على أجيالنا العربية الحالية والقادمة، مقترحاً جملة من الحلول أولها: إعادة تشكيل العلاقة بين الحكام والمحكومين في أقطارنا العربية، فلا بد من التخلي عن حكم الفرد المطلق وحكم الحزب الواحد، وغياب تداول السلطة بين الأحزاب السياسية، مطالباً بصياغة دساتير جديدة أو تعديل القديمة.
نهضة إصلاحية ملحّة
ولمواجهة حركات الإسلام السلفي الجهادية التي تنشر الرعب والعنف والدمار في جميع أقطارنا العربية دعا محافظة إلى نهضة إصلاحية، يتناولها المتنورون من قادة الفكر الإسلامي بمراجعة عاملة وشاملة وعميقة للتراث الديني، وبيان الأخطاء التي وقع فيها المتطرفون الجهاديون في فهمهم للنصوص، نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وهذا يحتاج إلى سنوات قادمة يتم خلالها إعداد القيادات الدينية المستنيرة وإنشاء مراكز الدراسات والبحوث الإسلامية على نطاق واسع، وإدخال نتائج هذه البحوث في مناهج التعليم العام والتعليم العالي. كما شدد على أهمية دور وسائل الإعلام والاتصال الحديثة في تعميم وتعميق الفهم المستنير للنصوص الدينية الإسلامية ومراجعة الآراء الفقهية من خلال الاستعانة بالعلوم الاجتماعية الحديثة علم الاجتماع والنفس وعلم الإنسان (انثروبولوجيا) وعلم الألسن وفقه اللغة وغيرها وفهمها فهما مستنيراً لنعيد للإسلام ألقه.
وعن كيفية الحد من العنف والإرهاب الجهادي، نادى محافظة بضرورة وقف المساعدات المالية والعسكرية التي تصل إلى هذه التنظيمات الإرهابية من بعض الدول العربية والإسلامية، ومن الأفراد والجمعيات، وبعد توقف العنف والإرهاب يجب احتواء الجهاديين، في المجتمعات العربية واستيعابهم في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص.
كما دعا العرب إلى العودة للتضامن العربي؛ فهي الضمانة الوحيدة إلى الاصطفاف والطمأنينة في البلاد العربية، والنهوض والتقدم والخروج من هذا النفق المظلم، والصراع المذهبي والقبلي الذي نعيشه اليوم.
إصلاح لغوي وديني
من جهته، تحدث أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية الدكتور جورج الفار، عن انطلاق النهضة العربية الحديثة مستعرضاً جهود الإصلاحيين والتنويريين، منوهاً إلى أن النهضة العربية الحديثة التي انطلقت في القرن التاسع عشر في الشام ومصر في آن واحد؛ غير أن الجناح السوري اللبناني ركز على إصلاح لغوي تنويري، في حين ركز الإصلاحيون المصريون على إصلاح الخطاب الديني.
وبين الفار، أن إجابات كل مفكر حول النهضة العربية، كانت مختلفة، فرفاعة الطهطاوي لم يجب على سؤال النهضة، وإنما كانت إجابته "نوعاً من الشعور بالجرح ومحاولة معالجة هذا الجرح الذاتي"، تمثل ذلك في عبارته المشهورة التي عبرت عن صدمته بالغرب بقوله: "رأيت إسلاماً ولم أرَ مسلمين"، بينما دعا جمال الدين الأفغاني إلى "وحدة المسلمين وإلى إصلاح الخلافة العظمى، وأن يكون المتنورون المسلمون هم قادة الأمة، وهم الذين يصلحون شأنها".
ورأى أستاذ الفلسفة أن محمد عبده كان "أكثر انسجاماً مع ذاته"؛ إذ رأى أن هناك خطأ ما، لينادي الشيخ الأزهري بالتوفيقية بين العقل والنقل. ومن هنا، وبمتابعة الخطاب الديني في هذه المرحلة خرج خطان باتجاهين، الخط الليبرالي الذي مثله محمد عبده، ثم جاء علي عبدالرازق الذي قال بالفم الملآن: "الإسلام ليس دولة دينية، الدولة الدينية الوحيدة كانت أيام الرسول وانتهت معه، ليس هناك دولة خلافة في الإسلام" ليكون مصيره الاضطهاد والطرد.
تمثل خط عبدالرازق فيما بعد بطه حسين، الذي بدأ بمنهج الشك الديكارتي، ومن ثم كتب كتابين استرضى فيهما جمهوره الإسلامي، وبعد طه حسين انتهج الخط الليبرالي أو التحرري نصر حامد أبو زيد وفرج فودة.
وفي موازاة هذا الخط، خرج آخر متشدد، وهو عودة عن إصلاحات محمد عبده مثّله تلميذه رشيد رضا، الذي لم يكن متعصباً، ونادى مرة أخرى بالخلافة الإسلامية بعكس ما قال به علي عبدالرازق، ومن هذه المدرسة فيما بعد خرج حسن البنا، ولاحقاً سيد قطب الذي كان أكثر راديكالية وامتدت المسألة لتمضي نحو مزيد من التشدد.
وأوضح الفار، أن رشيد رضا اختصر الإجابة عن سؤال لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ ببعد المسلمين عن دينهم، في حين بحث شكيب أرسلان بموضوعية في الفكر السياسي والاقتصادي الذي يبحث في البنى الاجتماعية للتأخر.
وأشار أستاذ الفلسفة أن الدين لم يُجب على مشروع النهضة؛ ففي خطاب النهضة كانت الناس ذاهبة نحو دولة وطنية قومية باتجاه ليبرالي أو اشتراكي، حيث تبنى مؤسسات دولة، وبرلمانات، واقتصاد حقيقي، وسياسة حقيقية فقد نادوا بالوحدة، فالخطاب كان ليبراليّاً أو اشتراكيّاً ولم يكن دينيّاً.
وفي معرض إجابته عن سؤال: هل ثمة (تصادمات/ توافقات) بين الخطابات الدينية المُتعدّدة للنص الديني، قال الفار: حدثت تصادمات كثيرة فيما بعد النهضة في تفسيرهم للنص الديني فكفّرت آراء كثير من التنويرين مثل؛ نصر حامد أبو زيد وفرج فودة ومحمد أركون وغيرهم، وتحالفت السلطة المدنية مع السلطة الدينية لإلغاء أي نص إصلاحي، كما تحالفتا على عزل هؤلاء التنويريين، فلم يكن هناك تأثير حقيقي واضح في تيار النهضة في الخطاب الديني، إنما تحالف السلطة المدنية مع الدينية أورثنا خطاباً دينياً بدا معتدلاً، وتشدد شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح تكفيرياً.
تثوير العقل الديني
ودعا الفار إلى ما أسماه "تثوير العقل الديني"، لا إصلاحه، مبيناً أن وعياً دينياً مغالطاً وغير صحيح بُني لدينا، ويجب العمل عليه، مشدداً على أننا نريد أن ننير العقل الذي يرى النص الديني ويفسره، وننور هذا العقل الذي يلقن الناس الخطاب الديني، منوهاً إلى أن عدم تثوير العقل ليفسر النصوص برؤية جديدة ومعاصرة سيبقينا متخلفين، فكلما ضاق العقل فسر النص بطريقة ضيقة ومتعصبة، وكلما اتسع العقل وثقف وتنور وسع هذا الخطاب الديني، وجعله معاصراً وحديثاً، وجعله يستوعب الحداثة.
وأشار الفار إلى أن "النهضة الأولى" انتهت في بداية الستينيات عندما حل الخطاب الديني المتشدد محل الخطاب الوحدوي التحرري العربي، فقد فشلت الدولة الوطنية "المقلَّدة / غير الأصلية" في حمل مشروع تحرري حقيقي، فشلت اقتصادياً ومدنياً في إدارة الحكم، وركض الناس وراء الخطاب الديني ليخلصهم من واقعهم، فالتجأوا للخط الديني الذي بدأ جميلاً أخلاقياً ومع الفترة تشدد.
ويرى أن النهضة الأول فشلت؛ لأنها "نهضة نخب ومفكرين لم تصل للجماهير"، والذي حال دون وصولها، وفق الفار، الأمية وقوى الشد العكسي أو قوى الرجعية.
وحول إمكانية إقامة "نهضة جديدة"، قال الفار: يمكن أن ننهض من جديد من خلال إصلاح التعليم؛ فالأمية بكل أشكالها تتفشى في بلادنا على اختلاف وتفاوت نسبها، كما شدد على ضرورة عدم إبقاء الخطاب الديني بمعزل، فإذا كان هذا الدين يصيب وجدان الجماهير وعقول كثيرين فليقدَّم للمتديّنين، وبعضهم متّقون ومتديّنون بشكل جميل، غذاءٌ فكريٌّ تنويريٌّ، ليس غذاء يدعو إلى الكراهية والحقد وقتل الآخر..، وإعطاؤه رؤية للحياة وللعالم مبنية على العلم.
إشكالة العلم والحرية
أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور رحيل غرايبة، رأى أن إشكاليات النهضة العربية تتعلق بثنائية العلم والحرية؛ فالعلم والنهضة متعلقان بالإنسان، وإشكالية النهضة هي إشكالية الإنسان، مشيراً إلى أن الأمم، قديما وحديثا، التي استطاعت أن تعيد بناء الإنسان بناء صحيحا عقلا ووجدانا استطاعت أن تنشئ نهضة؛ لأن الإنسان هو محور النهضة، ومن عجز عن إعادة بناء الإنسان سيعجز عن النهوض ومجاراة الأمم في مجال التنافس والتحضر.
وقال غرايبة إن الرسول، عليه السلام، أجاب عن سؤال النهضة عند العرب واستطاع أن يعيد بناء الانسان العربي، ليفكر بطريقة صحيحة وجمعهم على منظومة فكرية محمدية تقوم على منظومة أخلاقية نبيلة، فقد استطاع الرسول أن يشكل من العرب جماعة ذات رسالة، بدأت الإجابة العملية بالهجرة إلى المدينة بوثيقة المدينة لينتقل العرب من قبائل متناحرة متفرقة لا يجمعهم جامع إلى كيان له منظومة فكرية قيمية ويعرفون المنظومة التشريعية أيضاً، ويشكلون قوة واحدة بنى عليها الخلفاء الراشدون، التي تعتبر تجربتهم، وفق غرايبة، أول بدايات تأسيس المشروع النهضوي العربي، حيث أكلموا جمع الكيان العربي الجديد القادر على أن يضع قدماً بين إمبراطوريات العالم، من خلال نهضة الأمويين والعباسيين بالعلم وتشكيل جسر بين حضارات الأمم.
وفيما يتعلق بالخطاب الديني وتأثيره بالنهضة ركز غرايبة على أن الدين قيم ومعاني؛ هذه القيم يحاول البشر تطبيقها على أرض الواقع ولذلك التجربة الراشدية تجربة بشرية حاولت الوصول إلى هذا النموذج، لكنهم بشر لهم أخطاؤهم الكبيرة والكثيرة.
فالدين شكل عند المسلمين شكلاً من أشكال فاعلية الإنسان وإعادة بنائه بناء صحيحا، وفي الوقت الذي نعجز على إعادة بناء الإنسان بناء سليما سيكون العجز فينا نحن؛ لأننا عاجزون عن إيجاد الثنائية بين العلم المتعلقة بالفرد، والحرية المتعلقة بالسلطة وأنظمة الحكم.
وشدد غرايبة، على ضرورة "الأمن الفكري" وتحرير العقل، ليتمكن من التفكير بطريقة صحيحة، من خلال التفكر والتمحيص، فالحرية تسبق الدين والسلطة؛ لأن الله يريد من الناس أن يكونوا أحراراً، والسلطة وظيفتها حراسة الحرية، للأفراد والجماعات ومنع الاعتداء عليها، وحق الناس أن يعيشوا في بلدانهم وأوطانهم ومجتمعاتهم آمنين مطمئنين على منظومة قيمهم الدينية والفكرية وثقافتهم النوعية ومكونات أصالتهم الاجتماعية.
واختتمت الندوة بمداخلات الحضور، علماً أن الفيديو سيبث كاملاً قريباً على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث.