ندوة: علم أصول الفقه وسؤال التجديد
فئة: أنشطة سابقة
عرف صالون جدل للفكر والثقافةحضور مجموعة من الباحثين والأكاديميين، من أجل مناقشة وتدارس أحد المواضيع الجوهرية في العلوم المؤسسة للثقافة الإسلامية وللأحكام الفقهية، ألا وهو أصول الفقه. وذلك في يوم علمي تحت عنوان:"علم أصول الفقه وسؤال التجديد"، والذي نُظم يوم السبت الموافق لـ 11نونبر2013 في مقر مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
أكد الأستاذ مولاي أحمد صابر، المنسق الإقليمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث،في الجلسة الافتتاحية على أن موضوع التجديد في أصول الفقه موضوع حساس، وتتطلب مقاربته الأخذ بعين الإعتبار سياقه التاريخي الذي بصم بدايته الإمام محمد بن إدريس الشافعي المؤسس الأول لهذا العلم، والذي حصر أصوله في الكتاب والسنة والقياس والإجماع في كتابه الرسالة. كما أضاف أنه"بالرغم من اتساع هذا العلم من بعد الشافعي على يد كل من الجويني وأبي حامد الغزالي والآمدي...والشاطبي، إلا أن تجديده وتسييقه يبقى التحدي الأكبر من أجل تفكيك سلطة التقعيد والتفسير النصي المرتبطة في أساسها بالسلطة". متسائلا بذلك عن إمكانية إظهار العلاقة الجدلية بين السلطة العلمية والسلطة السياسية، فإلى أي حد تأثرت وأثرت نشأة وتطور علم أصول الفقه ورجاله بالسلطة، وبمجال الحكم في الثقافة الإسلامية.
وهكذا، تجزأت الجلسة الصباحية إلى أربع مداخلات:
تمحورت المداخلة الأولى:" أسئلة الدرس المعرفي في إشكالية تجديد علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة"، والتي ألقاها الدكتور عبد الرحمن العضراوي حول التمييز بين الوعي بضرورة التجديد في النظر الأصولي، وبين مقتضى النظر الأصولي للتجديد. إذا كان الوعي،على حد قوله، متجسد في المحاولات الاجتهادية التي بدأت مع الشافعي في جمعه بين الرأي والحديث، واستمرت مع الغزالي في تقريب المنهج المنطقي من المنطق الأصولي، ومع الشاطبي في إعادة تشكيل العقل الأصولي بجعل لبه هو النظر المقاصدي، ومع توصيفات بعض المحدثين في التركيز على توسيع بعض المسائل الأصولية الجامعة بين الفقه والمقاصد. فمقتضى النظر الأصولي للتجديد هو أشمل من كونه قضية جزئية تحتاج للتوسيع أو حذف زوائد في علم أصول الفقه التي أفقدته استقلاليته المضمونية والمنهجية. في طرحه لجدلية التمييز بين الوعي بضرورة التجديد في النظر الأصولي، وبين مقتضى النظر الأصولي للتجديد، أوضح المحاضر أن التجديد في أصول الفقه إشكالية معرفية، تتطلب تحليلا لجدلية النص الشرعي والواقع الإنساني بما تمتلكه من أسئلة في قراءة النص، وفي قراءة الإنسان وفي قراءة التاريخ. بناء على ذلك وتأسيسا على تحديد الإشكالية المعرفية في تجديد أصول الفقه،اعتمد الدكتور عبد الرحمان العضراوي على تحليل المحاور الآتية: سياق معرفة علم أصول الفقه، سياق فقه المعرفة الأصولية، ومحددات للتجديد الأصولي المؤسس على الدرس المعرفي.
وعرفت المداخلة الثانية، والتي ألقاها الأستاذذ.محمد شهيد طرح موضوع "التجديد في المقاصد". افتتح مداخلته بتأطير تاريخي لعلم المقاصد والتنظير المقاصدي، حيث أكد أن المقاصد في بداياتها كانت عبارة عن أفكار واجتهادات متناثرة في فتاوى وأحكام شرعية متعددة، وبالخصوص مع الوقائع والنوازل التي لم يرد فيها نص شرعي حاسم وقاطع. وبالفعل، حسب تعبيره، فقد كان التمظهر الأول للمقاصد من خلال الأفكار والآراء النظرية أو من خلال التطبيق الميداني والفعلي الذي يعتمد تنزيل بعض الأحكام التي غيرت ظروف الزمان والمكان التي صاحبتها في المرة الأولى. فبالرغم من أن مرحلة تدوين العلوم عرفت تناثر بعض الشظايا التي تهتم بالتنظير المقاصدي، إلا أنه بعد الشاطبي، لم يكن للتنظير المقاصدي دور كبير في المساهمة في تراث الإسلام الفكري، إلى أن جاء محمد الطاهر بن عاشور (1393ه) في مقاصد الشريعة الإسلامية وفي التحرير والتنوير، ثم علال الفاسي (1394 ه) في مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها...
ويرى المحاضر أن التجديد في المقاصد والتنظير المقاصدي، قد شهد عدة قفزات في تاريخه، لكن الأقوى فيها هو المرحلة الأخيرة التي شهدتها. من خلال هذه الرؤيا، سعت ورقته إلى طرح الأسئلة حول المجالات التي شملها التجديد في المقاصد، و ما هي أهم المشاريع التي تشهد لهذا التجديد، وما هو التجسيد الفعلي لهذا التجديد، وهل في التنظير فقط؟ أم في التنزيل كذلك؟ وما قيمة التجديد في المقاصد أمام المحاولات التاريخية السابقة؟
وعالجت محاضرةالأستاذ مصطفى بوكرن موضوع :"تجديد المنهج في دراسة علم أصول الفقه : منهج الدراسة المصطلحية أنموذجا" من خلال التمييز بين مرحلتين؛ الأولى هي التلقي الأول للنص القرآني، المستند إلى السليقة العربية، غير المنضبطة لعلوم اللسان المؤسسة لاحقا؛والثانية هي التأسيس والتقعيد لنشأة العلوم. من خلال هذه المفارقة، أوضح المحاضر أن علم أصول الفقه بشكله التأسيسي التقعيدي، لم يعرف لا في زمن النبي عليه السلام، ولا في عصر الصحابة، إذ أنه حادث، باجتهاد من الإمام الشافعي، استجابة لرسالة عبد الرحمن بن مهدي، وتشجيعا من علي بن المديني. كما أضاف على أن التأسيس والتقعيد لأي علم من العلوم، ينبني على "المصطلح"، ولا تشييد لمعمار العلم إلا بلَبَنات المصطلح. ولبيان هذه الفرضية، قدم الأستاذ مصطفى بوكرن النماذج الآتية :
أن رسالة الإمام الشافعي تأسست على مصطلح مركزي، هو "مصطلح البيان" بكل ما له من شبكة مفاهيم، تدور في فلكه، وهي " الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، الاجتهاد، النسخ، الاستحسان، الاختلاف...". كما تساءل/ هل يمكن أن نتحدث عن تجديد؛ دون فهم هذه المصطلحات العلمية، وعلاقة بعضها ببعض؟
وأن مرحلة الغزالي، والتي عرفت نضج علم أصول الفقه، سلك فيها الباحث تصنيفا جديدا، مخالفا لطريقة الشافعي في التأليف، حيث ضم كتاب المستصفى ثلاث مقدمات.
كما أن مرحلة الشاطبي، عرف فيها المصطلح الأصولي تطورا جديدا، ويرجع ذلك إلى نظرية المقاصد التي قعد لها المؤلف في مصنفه الموافقات.
إجمالا، قاربت ورقة المحاضر موضوع :" مصطلحات علم أصول الفقه"، بناء على تجارب بحثية متنوعة.
واختتمت الجلسة الصباحية بمداخلة الأستاذ رشيد ضريف والموسومة بـ"علاقة الفكر الأصولي عند الشافعي بظهور فقه الحديث"، حيث تطرق إلى مسألة ظهور فقه الحديث في الفكر الإسلامي مقابل ضمور فقه الأثر وفقه الرأي. وانطلق في دراسته من البحث في بعض الدلالات اللغوية لبعض الاصطلاحات الفقهية المنتشرة قبل وأثناء ظهور الإمام الشافعي. كما ركز في مستوى ثان من البحث على علاقة النظرية الأصولية كما نظر لها الإمام الشافعي، بانتشار فقه الحديث.
واختتم ورقته البحثية بالحديث عن علاقة الفقه الشافعي بعلم الكلام الأشعري، وما خلفه هذا التعالق من أثر على المعرفة العقدية والفقهية، خصوصا بعد عملية مزج المنطق بأصول الفقه على يد الفقهاء الشافعية.
بعد فترة مناقشة غنية أثرت النقاش العام، جاءت الفترة المسائية بمداخلات متنوعة حول نفس الموضوع"علم أصول الفقه وسؤال التجديد"
جاءت مداخلة الأستاذ عمر بيشو حول موضوع "الاجتهاد والكفاية: أية علاقة؟"حيث ركزت ورقته تحديدا على قراءة مفهوم "الاجتهاد"كآلية أصولية، معرفية، على ضوء راهن العلاقة بالمعرفة، والمتمثل في المقاربة بالكفايات؛ من حيث ما يشتركان فيه من خصائص ومميزات تجاه نمط علاقتهما بالمعرفة؛ سيّما وأن لهما مؤشرات فعلية ومقاصدية، تجعلهما يقتربان إلى حد التواشج والتشارك في تأثيث فضائهما المشترك؛ أليس الاجتهاد في نهاية المطاف ثمرة جهود عقلية متواصلة في بناء المعرفة وقراءة علاقة النص بالواقع قراءة عقلية في غياب صريح المنقول؟ وفي طرحه، تساءل الأستاذ عمر بيشو عن علاقة الاجتهاد بالكفاية. مضيفا، أليس الاجتهاد- بقول آخر- يقتضي تفعيل مجموعة من الشروط و"المدارك"، لجعلها تتواجه ومستجدات الحياة اللا متناهية واللا متوقعة؟ بعبارة أخرى، أليس مدخل الكفاية/ Compétence- في فكرنا المعاصر- كأقصى فعل ذكائي إنساني في علاقته بالمعرفة " يقوم" هو الآخر- من وجهة نظر معرفية / cognitive- على نمط ما من الاشتغال المعرفيلذلك التدبير الاجتهادي المقاصدي على وجه التحديد، بشكل أو بآخر؟.
لقد قدمت مداخلة الأستاذ بيشو مقاربة جديدة، تنطلق من دراسة راهن العلاقة بالمعرفة وكذا تراثها، متجاوزة بالتالي، حصر دراسة الفقه وأصوله، من حيث إمكانية تجديده، من خلال نماذج لبعض القواعد والأسس التي وضعها علماء الأصول، وإرجاع قراءة تلك القواعد والأسس إلى الأرضية المعرفية التي تشكلت عبرها فحسب.
وأكدت مداخلة الأستاذ أبو الطيب مولود السريري والمعنونة بـ "معنى تجديد علم أصول الفقه" من بدايتها إلى نهايتها، على أن تجديد الأمور الدينية، ومنها تجديد العلوم الشرعية لا يمكن أن ينصرف معناه إلا إلى إحيائها في النفوس والعقول، حتى تصير ملكات قائمة بها، وإنما لا يتأتى في هذا الشأن غير هذا لثبوته على حالة مخصوصة منقولة معينة، وإذا تقرر هذا، فإن تجديد علم أصول الفقه حده هو تكوين طلبة العلوم الشرعية إلى سبب يوصلهم إلى كسب الملكة الأصولية التي تتجلى في القدرة على التصرف في بناء المسائل في هذا العلم، وفي معرفة السبل الموصلة إلى ذلك، وفي التقويم للآراء والأقوال فيه، حيثيكونون على سنن من قال قبلهمفي هذا الشأن. أما ما يساق في هذا الموضوع من أن الواقع قد تغير، وأن الحياة قد اكتست أصولا جديدة، وذلك فالناس قد صاروا في أحوال جديدة، تقتضي تجديد هذا العلم ليكون على وفق، فإنها دعوة لا ترد على هذا العلم على وجه الخصوص؛ فموردها علم الفقه؛ أي تنزيله، إذ هو الذي له علاقة بأحوال المكلفين وأعمالهم، وهو الذي تتأثر صوره في التنزيل بهذه التغييرات النفسية والاجتماعية؛ فالفقه هو الذي يجب أن يكون موافقا لما يحقق مقاصد الشريعة، وما يثبت عليه من التزكية للنفوس ورفع الحرج والضيق عن الناس، واختيار الأولى بأحوالهم بمعيار الوسطية الإسلامية الذي يحقق انتظام أحوال العالم على سداد.
ختامه كان مسكا، مع مداخلة الأستاذ عادل الطاهري، حول موضوع"أصول الفقه : تاريخية المبحث وأفق التجديد"، حيث افتتح مداخلته بالإشارة إلى أن الموضوع الذي سنعالجه اليوم ذو شحنة وجدانية عالية. إن الحدود والمسافات التي تفصل الذات عن الموضوع هنا شبه غائبة؛ فالموضوع الذي هو أصول الفقه جزء من الذات، ذاتنا الثقافية نحن العرب المسلمين، إذ الفقه وأصوله "علم" إسلامي أصيل فعلا، وكل محاولات المستشرقين لإيجاد حلقة وصل بين المنظومة التشريعية الإسلامية ومنظومة التشريع الرومانية في سياق السعي لتضخيم "الأنا" الغربية، لم تصمد كثيرا أمام الحقائق التي تصب كلها في إسلامية الفقه وأصوله.
وهكذا، تطرقت مداخلة الأستاذ عادل الطاهري إلى ثلاثة محاور أساسية، هي:
المحور الأول: أصول الفقه والعقل الإسلامي... أية علاقة؟حيث تناول فيها كيفية إسهام أصول الفقه في بلورة العقل الإسلامي، متكئا على أطروحتي أركون والجابري، ومستحضرا التمييز اللالاندي بين العقل المكوِن والعقل المكوَن، وكيف أن هذا الأخير صنعه الشافعي من خلال القواعد التي وضعها في أصول الفقه، مزكيا أطروحته ببيان كيف أن الفكر العربي في القديم والحديث يعتمد آلية القياس فقط كآلية لإنتاج المعرفة.
المحور الثاني: في ضرورة تجديد المنظومة الأصولية تطرق خلاله إلى سببين يحتمان ضرورة التجديد؛ أولا ارتباط الرسالة الأولى للشافعي بسياقات تاريخية معينة (سأعتمد هنا على أطروحة الدكتور عبد المجيد الصغير في كتابه الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، وكذلك كتاب نصر حامد : الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية). ولأن سياقنا التاريخي مختلف، فلابد من البحث عن منظومة أصولية جديدة؛ السبب الثاني كثرة التوظيفات المشوهة لهذه القواعد الأصولية، وضرب المثال بقاعدة أصولية شهيرة يساء فهمها، وهي "لا اجتهاد مع النص"، وكذلك ما يسمى ب"الإجماع.
وجاء المحورالثالث والأخير بعنوان المقاصد ورهانات التجديد الذي تناول في مجمله نظرية طه عبد الرحمن في المقاصد.
وشهدت نهاية الجلسة لليوم العلمي توزيع الشواهد على المشاركين من طرف الأستاذ مولاي أحمد صابر، الذي نوه بجدية المداخلات التي أثرت النقاش و نقلته إلى مستويات معرفية غنية و ومتنوعة عبرت عن أهمية الموضوع، وعن تعدد مقاربته في السياق المعاش اليوم، ليس فقط في المغرب، بل في الواقع العربي إجمالا.