ندوة : في مديح الكذب
فئة: أنشطة سابقة
ندوة عن مديح "الكذب اللذيذ" للتخفف من ثقل الوجود
يؤرخ تاريخ الكذب لتاريخ الإنسان، وما ينسحب على يوم "كذبة نيسان"، ينسحب على حياة بأكملها، بدءاً من كذب الإنسان على نفسه ليتخفّفَ من ثقله الوجودي، وليس انتهاء بالكذبات الكبرى عبر مسيرة الإنسانية الطويلة.
هكذا يُعاين هذه الإشكالية باحثون ومثقفون، حيث إنّ الكذب المتعالق مع الخيال "محفز لواقع مأمول في المستقبل، دونما ضرر بالنفس أو الغير".
ويؤكد كلٌّ من طبيب الجراحة العامة والباحث في الشؤون الثقافية الدكتور أسامة قفاف، وطبيبة الأسنان القاصة والباحثة الدكتورة شذى غرايبة، أنّ الكذب الممدوح أو (اللذيذ) "موجود وفاعل" في حياتنا اليومية، حتى لو تم نبذ فعل الكذب بشكل عام، من قبل المنظومات الاجتماعية.
و"في مديح الكذب" ومساءلته، من منظور فلسفي وعلمي، وفيروزي أيضاً "تعا ولا تجي واكذب عليي" كما غنت فيروز، انعقدت ندوة نظمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث بالتعاون مع مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب بعمّان في الأول من نيسان الحالي، أدارتها الطالبة في الجامعة الهاشمية دينا حمو.
الكذب من أجل البقاء
الكاذب "يبطن إقراراً بالكذب، حتى لا تنعدم عنده أسباب البقاء ليوم جديد"، هذا ما قالته الطبيبة شذى غرايبة في مداخلتها؛ حيث أوضحت أنّ الإنسان ربما يكذب ليتخفف ويستمر في حياته اليومية، وليقنع نفسه بالأمل أحياناً في إيجاد واقع أفضل.
وانطلقت غرايبة من رؤية الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي رأى أنّ الكذب دون قصد، أو لتجنب الأذى للنفس أو للغير "لا يجعل من الإنسان كاذباً".
وتساءلت الباحثة إن كان يمكن اعتبار الوهم أو الخيال، حالتين إنسانيتين تندرجان تحت مفهوم "الكذب اللذيذ" والذي حاولت تقصيه ضمن أربعة محاور؛ إذ ركزت في الأول على فكرة الكذب لأجل البقاء، التي تتضمن مد جسور بين العالم المعيش وعالم آخر مرغوب بصفته أكثر إغراء، فيكذب الإنسان على نفسه بتقديم ما يملكه، لأجل حلم بما لا يملك.
وتطرقت في المحور الثاني إلى الكذب في الصورة، وتناولت برامج الاتصال في العالم الافتراضي، متخذة من برنامج "snap chat" مثالاً؛ حيث يمكن للإنسان من خلاله، الحصول على مساحة افتراضية تمكنه من وضع صورته وقصة هذه الصورة التي ستختفي بعد أربع وعشرين ساعة، بالطريقة التي يراها مناسبة لتعبر عنه أمام الآخرين، رغم أنه في أحيان كثيرة، لا تمثل هذه الصورة والفكرة أو القصة التي ترافقها "حقيقة أو واقع" هذا الإنسان في حياته الخاصة واليومية، ما يتيح نوعاً من الكذب على الذات والآخر.
علاقة الفلسفة والوجود بالكذب، كان المحور الثالث الذي ناقشته غرايبة، مبيّنة أن الكذب قديم قدم الإنسان، ولطالما عاونه على احتمال وجوده، وظروفه الحاضرة؛ إذ قد يصدق الشخص كذبته مع مرور الزمن أحياناً، ويقوم يإيهام نفسه، بأن هنالك علاقة تبادلية ربما، بين الواقع والوهم، قد يربطهما الكذب.
أما المحور الأخير، فدار حول الكذب المشفوع بالتخيل بالنسبة للأطفال، منوهة إلى أن هذا النوع من الكذب يشكل محاولة للتخلص من إحباطاتهم ورغباتهم غير المشبعة؛ حيث يرى عالم الاجتماع الروسي ديكوتسكي، وفق الباحثة، أنّ الخيال يبدأ بالتشكل عند الأطفال بعد الثانية من العمر، مترافقاً مع بدء تعرضهم لهذه الإحباطات، ومحفزاً لهم على التخيّل ومحاولة الهرب واللعب في أماكن، قد تقودهم إلى تحقيق طموحات واقعية في المستقبل.
واعتبرت نقص الخيال، الذي نراه جلياً لدى الأطفال المصابين بالتوحد، والذين يكررون حركات أو كلمات وأفعالاً نمطية بسبب هذا النقص، دليلاً على قيمة هذا الخيال "الكاذب" في مرحلة الطفولة.
ولفتت غرايبة إلى مفهوم "السيكودراما" أو "التخيل الإيهامي"، وما يشكله من علاج للصغار والكبار، حين يتخففون ويؤدون أدواراً متمنّاة، تنزع عبء حاضرهم ربما، وتحيلهم إلى الأمل بالتغيير أو تحقيق الرغبات، وانطلاقاً من ذلك ختمت الباحثة كلمتها بنصيحة "لاتحرموا أبناءكم من الخيال".
اكذب أيها الروبوت!
"اكذبوا عليّ الكذبة مش خطية" بهذه العبارة استهلّ الدكتور أسامة قفاف حديثه قائلاً: تذرعوا بالأول من نيسان (يوم الكذب العالمي الحلال)، ولا تخافوا، لن تطول أنوفكم أو أنفي عندما أقول إنني أحبكم جميعاً و تبادلونني المجاملة.
قفاف الذي أشار إلى أنه "لا يوجد تعريف متفق عليه للكذب"، تساءل منطلقاً من موضوع فيلم " Artificial Intelligence"، الذي يتحدث عن طموح رجلين آليين ليصبحا بشريين، إن كان الكذب المرافق للبشرية منذ البدء، يمكن أن يضيف واحدة من السمات البشرية على هذين الآليين.
وذكر قفاف ما يتداوله الروحانيون والمتصوفة والبوذيون حول طقوسهم، والتي يقولون إنها تقودهم إلى تجربة عميقة تمنحهم القدرة على زيارة الأماكن والإحساس بالانتقال من مكان إلى آخر فيزيائياً وشعورياً، مثلما ادعى الشهرستاني بخصوص قدرة المتصوفين الأوائل على مشاهدة العوالم العلوية بحسهم "رحلة في الفضاء الخارجي مثلاً" .
وتناول قفاف آراء الفلاسفة حول الحقيقة بصفتها غير واضحة، ما يجعل مفهوم الكذب "غير ثابت" بالأساس، فمنذ أفلاطون، مروراً بديكارت وليس انتهاء بنيتشه الذي رأى أنّ الوهم "ضروري للإنسان حتى يحيا حياة سليمة".
وتحدث قفاف عن الكذب من منظور علمي؛ حيث تطرق إلى ما يسمى بالكذب القهري أو المرضي"Mythomania"، وهو "اضطراب شخصية يكون المصاب به قادراً دوماً على إيجاد كذبةٍ لا تتناسب مع الموقف الواقعي كلياً"، وهذه الحالة، وفق الباحث، قد تكون مؤقتة أو تصاحبه طوال العمر.
وأشار قفاف إلى أن الحديث عن الكذب ليس بعيداً عن الأدب والفن والديستوبيا واليوتوبيا، من رواية 1984 لجورج أورويل وعالم شجاع لألدوس هكسلي، إلى مدينتي أفلاطون والفارابي الفاضلتين.
وخلص إلى أن الكذب يرافق الإنسان في مختلف مستوياته الحياتية والعملية، ومنه "الكذب الممدوح"، والذي قد يرتبط بالتخيل والتوهم أحياناً، ويشكل نوعاً من الخلاص للإنسان، حتى لا يبقى رازحاً تحت نير الواقع.
الكذب اللذيذ
وبعبارة "كذبكم حلو" ختم قفاف كلمته المتنوعة والساخرة في آن، قبل أن يُفسَح المجال للحضور للنقاش والتعبير عن آرائهم في الندوة. تساءل بعضهم عن مصطلح "الكذب اللذيذ"، فقدم الباحث معاذ بني عامر مداخلة لفت فيها إلى أننا "نحن أمام نوع آخر من الكذب، كذب لذيذ، ما يزال التنظير فيه قليلاً، يمكن الانتباه إليه وتعزيز مسلكياته، ليكون أداة في يد الإنسان، كي يصبح أكثر احترافية في تحسين شرط وجوده الإنساني، ونقله من طور المأتمية - فالإنسان يولد باكياً- إلى طور أقل حدّة، لكن دونما إيذاء للآخرين أو تعريضهم لهزءٍ أو سوء، من شأنه الإضرار أكثر من النفع والفائدة".
ونوه بني عامر، إلى أنه يتطلع لفتح آفاق بحثية وفلسفية أكثر عمقاً في تأصيل المفهوم، الذي يعد مادة بحث "غير مطروقة المعالم بما فيه الكفاية سواء في الشرق أو الغرب".