قراءة في كتاب "الربيع العربي والدستورانية " للدكتور حسن طارق
فئة: أنشطة سابقة
شهد صالون جدل الثقافي، التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، يوم السبت 31 أكتوبر 2015، ورشة علمية حول كتاب الدكتور حسن طارق "الربيع العربي والدستورانية" ، الفائز بجائز المغرب للكتاب عام 2015، شارك فيها بالإضافة إلى المؤلف السادة الأساتذة: بثينة قروري، أستاذة العلوم السياسة والقانون الدستوري بجامعة القاضي عياض، والأستاذ بنفس الجامعة الدكتور الحسين اعبوشي، والباحث عمر الشرقاوي من جامعة محمد الخامس.
تناولت الكلمة في بداية الورشة، الدكتورة بثينة قروري التي أكدت في مداخلتها أن الكتاب ينتمي إلى جيل جديد من الكتابات التي حاولت أن تواكب الحراك العربي بالتحليل والدراسة من زاويتين:
الزاوية الأولى؛ هي محاولة تحليل الظاهرة بأبعادها السوسيو اقتصادية والسياسية، وفهم ديناميتها من الداخل و الوقوف عند الأسباب الكامنة وراء هذه الثورات، وهل هي نتاج حالة انفجار داخلي أم حصيلة تفاعلات محلية وإقليمية.
الزاوية الثانية؛ هي محاولة تحليل مخرجات الحراك السياسي ونتائجه من الناحية المؤسساتية والدستورية أي من ناحية الهندسات الدستورية الجديدة التي أفرزها منطق إعادة توزيع السلطة على ضوء مطالب الميادين والقوى السياسية الجديدة. وفي هذا السياق، ينبغي أن نقرأ الإشكالية الرئيسة التي يحاول الباحث تطويرها، والمتعلقة بمدى تمثل التحولات الدستورية لما بعد 2011 لقيم الدستورانية، ولفكرة الدستور الأصلية كوثيقة لتقييد السلطة، كما يحاول الباحث في كتابه الإجابة عن سؤال: إلى أي حد تشكل هذه التحولات محاولة لتجاوز الإطار الدستوري لزمن السلطوية العربية؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية يقدم الباحث، حسب الدكتورة بثينة، فرضية أساسية ظلت حاضرة بشكل نسقي في مختلف مفاصل أطروحة الكتاب، وهي أنه على أهمية التحولات التي عرفتها هذه البلدان، سواء في سياق الثورة أو في سياق الإصلاح، فإنها لا تمثل قطيعة حاسمة على مستوى الإقرار بروح الدستورانية، وترسيخ مسألة سمو الوثيقة الدستورية المقيدة للسلطة.
وقبل مناقشتها للكاتب في بعض الخلاصات، عبرت الأستاذة بثينة عن اتفاقها الكامل مع الباحث على أن الدستور المغربي يحتوي على مساحات من الظل و الفراغات التي تحتمل أكثر من تأويل، والتي تعد الثقافة السياسية للنخبة والمتغيرات السياسية و موازين القوى هي المحدد الرئيس لملئها.
لكنها سجلت ملاحظات نقدية على الكاتب، نجملها فيما يلي:
أولا: قضية الهوية والدستور
في هذه النقطة، تعتقد الباحثة أن الكاتب لم يأخذ المسافة الضرورية، وهو يجزم في إحدى خلاصاته بأنه لا يمكن الجمع بتاتا بين خطابات الهوية وبين الدستور التي رأى أنها تترك شروخا في المواطنة، وهي الفكرة التي استعرضها في كتابه بصيغ مختلفة، إذ اعتبر أن انتعاش خطابات الهوية هي خطابات لا تسعف دائما على انبثاق مفهوم المواطنة.
ثانيا: قضية العودة لشعار الدولة الدينية ووأد الدستور
يقدم الباحث فكرة مفادها أن العودة القوية لشعار الدولة الدينية شكل محاولة في العمق، لوأد فكرة الدستور نفسها، وربما الارتداد على ما سماه الأستاذ طارق ب"التراث المتواضع للسلطوية العربية في مجال الدساتير"، إذ اعتبر أن الدولة الدينية تبدأ في المنطلق، بنفي ممكنات التعاقد القانوني بطابعها الوضعي والبشري والنسبي. في حين أن الباحثة ترى أن حلقات الصراع في مصر وتونس لم يكن دائرا بين تيارات دينية تريد أن تقيم دولة دينية وتيارات تريد إقامة دستور لدولة مدنية قوامها الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة.
إن التدافع السياسي كان بين تيارات ثورية مناهضة للاستبداد والسلطوية، وأخرى تقود ثورة مضادة للمحافظة على السلطويات المختلفة.
وفي ختام مداخلتها، لم يفت بثينة قروري القول إن هذا الكتاب يعد محاولة جادة في تحليل الأنظمة الدستورية العربية المقارنة بالاعتماد على مناهج القانون الدستوري، وبالاستناد أيضا على مناهج علم السياسة و تحليل التطور الدستوري في الواقع العربي على ضوء تفاعلاتها الميدانية والسياسية.
أما الدكتور الحسين اعبوشي، فقد ركز في قراءته للكتاب على أنه يتمحور حول سؤال مركزي وهو، هل تجاوزت موجات الدسترة التي أعقبت الربيع العربي دساتير السلطوية العربية ، و هل استحضرت هذه الموجة قيم الدستورانية ، كقيم تؤسس لآليات تقنين و تقييد السلطة ، وتوزيعها و تداولها ؟.
لقد عمل المؤلف على تفكيك عناصر هذا الإشكال، من خلال التركيز على الحالة المغربية، و من خلال دراسة المسار التأسيسي لدستور 2011 ، و دراسة مضامينه و مقتضياته ،مع استحضار التجارب الدستورية المقارنة لما بعد الربيع العربي لكل من تونس ومصر.
لقد جاء، هذا الكتاب، حسب الحسن اعبوشي، في سياق ضمور المواكبة العلمية و النقدية و التحليلية لما وقع من أحداث و تطورات منذ أن أعطت ثورة الياسمين بتونس انطلاقتها ، أمام المواكبة الإعلامية ،المرئية و المكتوبة، بل إن هذه المواكبة كانت سباقة في وضع توصيفات للأحداث ، و الوقائع التي عرفها الربيع العربي .
هكذا يرى اعبوشي أن التصور الناظم و الموجه لكتاب حسن طارق، ينطلق من فكرة مركزية، مؤداها أنه رغم أن التحولات الدستورية لم تحقق القطيعة المنتظرة ولم تؤسس لدستورانية منتجة لشرعيات جديدة ، قائمة على مأسسة السلطة ، و دمقرطتها ، فإن دساتير ما بعد الربيع العربي تجاوبت بأشكال و مستويات متباينة مع دستورانية الربيع العربي. و لعل هذا ما جعل المؤلف يدرج الدستور المغربي و دساتير ما بعد 2011 ضمن الجيل الجديد للدساتير، التي تؤسس للحقوق و الحريات و للمشاركة المدنية و للديمقراطية المواطنة، و التي تقنن السلطة و تقيدها .
كما تميز هذا الجيل الجديد من الدساتير بقيام النص الدستوري على أنماط من " التوترات المهيكلة " ، تختلف من حيث طبيعتها إلى توترات أصلية، ومن حيث حدتها إلى توترات مزمنة، ومن حيث علاقتها من جهة بالسلطة، وعلاقتها بالديمقراطية و من حيث علاقتها بالمرجعية، و هذه الأنماط من التوترات لا تتضح دلالاتها بدون ربطها بتوتر الممارسة .
لقد ذهب المؤلف، حسب اعبوشي، إلى أن دساتير الربيع ، لا يمكن قراءتها فقط في ضوء دستور صك الحقوق، ودستور فصل السلط، والدستور الثقافي، طالما أن السياقات التأسيسية لهتين الوثيقتين و مضامينهما، تجعل إمكانية قراءتها كدساتير للسياسات العمومية ممكنة .
وخلاصة مداخلة الدكتور اعبوشي هي اعتباره أن القيمة العلمية والمعرفية للكتاب ، في سياق ما ينتج الآن في مجال الفكر القانوني و الفقه الدستوري على وجه التحديد، و في مجال العلوم الاجتماعية ، تكمن في محاولة الأستاذ حسن طارق التأسيس لمشروع فكري ، منطلقه الأساس أن العلوم الاجتماعية العربية، عملت على دراسة التحولات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، لكن أغفلت دراسة تحولات الأنظمة المعيارية و القانونية الموازية لها .
اعتبر الأستاذ الباحث الدكتور عمر الشرقاوي أنه يمكن تصنيف كتاب (الربيع والدستورانية: قراءة في تجارب المغرب وتونس ومصر)، ضمن المحاولات النظرية التي دأبت على تحليل النظام السياسي والدستوري المغربي، وتحديدا تلك الدراسات التي اهتمت بعلاقة الدولة بالمجتمع. هذا التصنيف يجعلنا، حسب المتدخل، في قلب تلك الكتابات التقليدية التي مازالت طاغية حتى اليوم على التناول الأكاديمي المغربي. والتي تراوح اهتمامها إجمالا ما بين طغيان الخصائص التقليدية السلطوية التي حكمت إنتاج الوثائق الدستورية الخمس التي شهدها التاريخ الدستوري المغربي، وبين تلك التي اعتبرت أن تلك الوثائق والعلاقة بين الفاعلين يستجيب لبعض متطلبات التحديث الليبرالي.
على أن الإطار النظري الذي يتبناه الكتاب، حسب الشرقاوي ، لفهم طبيعة هذه العلاقة بين الفاعلين والوثائق الدستورية لم ينتصر خلال قراءته للربيع المغربي، وما ترتب عنه من مخرجات دستورية لمنظور دون آخر، بل أظهر الباحث اقتناعا بكون هذه العلاقة تحتاج إلى الجمع بين الحمولة التقليدية السلطوية المحكومة بإرث الماضي وبين النزوعات الحداثية للوثائق الدستورية.
هاته المقاربة النظرية التوفيقية، يقول عمر الشرقاوي، هي التي سمحت بقراءة مهيكلة لبعض المفارقات والتوترات التي حملتها الوثائق الدستورية العربية التي امتزج فيها تعايش/تنازع المنطقين الرئاسي والبرلماني، داخل هندسة توزيع السلطات، ثم تعايش/تنازع النمطين التمثيلي والتشاركي، داخل تصور هذا الدستور لفكرة الديمقراطية، ثم بتعايش/تنازع مرجعيتي الهوية والمواطنة، داخل البناء القيمي، تعايش/تنازع الديني والمدني.
لقد أظهر المؤلف، في نظر الدكتور الشرقاوي، قدرة بحثية في صهر الديمقراطي والسلطوي بين الدستوري والسياسي بين الدنيوي والديني، جعلت من الكتاب بحق أحد المنتوجات الأكاديمية التي تمهد لميلاد موجة ثالثة من الكتابات الدستورية، والتي لا تقتصر على الكتابة الكلاسيكية المفرطة في الفقه الدستوري التي سادَت الإنتاج الدستوري المغربي خلال العقود الثلاثة الماضية.
هكذا يعتقد المتدخل أن الكتاب لم يقتصر على محاولة فهم وتفكيك الحالة الدستورية المغربية، بل أصر على استدعاء المنهج المقارن لقراءة التجارب لما بعد التحولات السياسية التي عاشتها الأنظمة السلطوية العربية بعد الثورات من خلال مساءلة عميقة لدلالات الانتقال ومآلاته، ومدى استيعاب أسمى الوثائق القانونية لما بعد الانتقال للقيم الدستورية الحديثة.
ويعد الكتاب، أخيرا، وحسب الباحث الشرقاوي، من الناحية المنهجية تمرينا ناجحا لتقريب العلاقة التي ظلت متوترة بين وظيفة رجل السياسية والباحث الجامعي، فالمؤلف الذي كان فاعلا في الحراك ومحللا أمينا له توفق في تدبير العلاقة بين السياسي الذي يسعى إلى تدبير الظرفي واقتراح التاكتيكات وإجراء المساومات والمفاوضات، في إطار حسابات السلطة ورهاناتها، فإن مهمة الباحث السياسي الذي لا تحكمه حسابات المنفعة، وتقتضي منه تمحيص الظواهر السياسية وإضفاء قدر من الأنسنة على العملية السياسية.
وفي تعقيبه على الأوراق المقدمة، تناول الكلمة المؤلف الدكتور حسن طارق مبينا أن الإشكالية التي يقترح كتاب "الربيع العربي والدستورانية "معالجتها هي مدى تمثل التحولات الدستورية لما بعد 2011 لقيم الدستورانية، ولفكرة الدستور الأصلية كوثيقة لتقييد السلطة، وهل تشكل هذه التحولات محاولة لتجاوز الإطار الدستوري لزمن السلطوية العربية؟
وقد وضح طارق أن ما يقصده بالدستورانية، هنا، هو بالضبط تلك المنظومة من الآليات التي تسمح بميلاد نسق فعال من القيود التي تهم ممارسة الحكم، سواء من خلال توزيع السلط أو قواعد المنافسة والمسؤولية السياسية للحكومة. ولا شك في أن هذا التذكير من شأنه أن يجعل مقاربة الكاتب قائمة على التفكير في النصوص الدستورية المنتجة في سياق ما بعد انفجارات 2011، في ضوء مقارنتها بمبادئ الدستورانية الغربية، المرتبطة بسمو الدستور، وبوظيفته الأصلية في تقييد السلطة، وتحديد مساحات اشتغال المؤسسات الدستورية. خاصة وأن السلطوية العربية نجحت في خلق "دساتير بلا دستورانية"؛ دساتير على هامش السلطة، عوض أن تكون ميثاقاً لتنظيمها، ومقتضياتٍ لكبحها.
هكذا يقترح حسن طارق، مغربياً ، فتح مسالك أولية لقراءة وثيقة 2011 كدستور للسياسات العمومية، منطلقاً من كون السياسات العامة هي بالأساس أحد مخرجات النظام الدستوري، وجزء من الأجوبة اليومية للنظام السياسي، ودليل على مشروعيته.
إن التفكير في مقاربة "قانون دستوري للسياسات العمومية"، حسب المؤلف يدعو إلى التساءل عن قابلية الوثيقة الدستورية للتوصيف، كوثيقة مرجعية من الناحية القيمية والتوجيهية والمعيارية للسياسات العمومية، وعن مدى الأثر الذي قد تخلقه هذه الوثيقة بشأن تقاليد هندسة السياسات العمومية المتميزة بالهيمنة "التقنوإدارية"، فضلا عن دراسة الدستور كمجموعة مساطر وآليات لضبط مسار إنتاج وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية .
والواقع أن "فحص" الوثيقة الدستورية يبين، حسب حسن طارق، "قابليتها" القانونية والسياسية لتأويلات متباينة، ليس لأسباب لها علاقة بالصياغة والشكل، ولكن أساسا لنهوض النص الدستوري على جملة من "التوترات" المهيكلة، والتي تفتح الباب -موضوعيا- أمام إمكانيات تأويلية متعددة.
وتتعلق هذه التوترات بتعايش/تنازع المنطقين الرئاسي والبرلماني، داخل هندسة توزيع السلط، داخل الدستور، ثم بتعايش/تنازع النمطين التمثيلي والتشاركي، داخل تصور هذا الدستور لفكرة الديمقراطية، ثم بتعايش/تنازع مرجعيتي الهوية والمواطنة، داخل البناء القيمي الذي تقترحه وثيقة 29 يوليوز2011. هذا دون أن ننسى ما يمكن اعتباره توترا "مزمنا" لكل الدستورانية المغربية، من خلال بحث مدى احتفاظ التجربة الدستورية الحالية بإشكاليتي السمو والازدواجية، وهما الإشكاليتان اللتان طبعتا مسار الحياة السياسية والدستورية بالمغرب، خاصة منذ بدايات الثمانينيات.
أما على المستوى العربي ،فإن النقاشات حول هندسة السّلط، والتي برزت في سياق ما بعد الربيع ، قد عرفت -على عكس ما كان متوقعاً- انتصاراً واضحاً للاختيار الذي راهن على تصحيح "الرئاسوية"، وتقليم مظاهرها "السلطوية"، مقابل انحسارٍ بين للدعوات البرلمانية، وفي كثير من اللحظات قُدمت مزايا النظام الرئاسي المُعَقْلن، أو حتى شبه الرئاسي، كضمانة مؤسسية لتجنب مخاطر الانزلاق "المُمْكن"، الذي قد يحمله الاختيار البرلماني، من حالة الدولة الاستبدادية إلى حالة الدولة الفاشلة.
وفي نهاية مداخلته، خلص الدكتور حسن إلى أن تفكيك دستورانية الربيع من خلال التفكير في الأجوبة التي قدمتها دساتير ما بعد الثورات، في تونس ومصر، لأسئلة الهوية وقضايا الدولة المدنية ومحددات الانتماء الجماعي، ولموضوع نظام الحكم وإشكالية توزيع السلطة، ولمسألة السياسات القادرة على مواجهة انفجار الطلب الاجتماعي المتزايد، ثم لإشكاليات الحرية وحقوق الإنسان، يسمح في النهاية بإعادة تركيب دستورانية الربيع، وفق أربعة دساتير متجاورة ومتداخلة، هي دستور الهوية، ودستور السلط، ودستور الحقوق، ودستور السياسات.