محاضرة: "هل أخلف المسلمون الموعد مع الأنوار؟"
فئة: أنشطة سابقة
جنجار: تحولات جوهرية أنشأت الأنوار عند الغرب وغفلها المسلمون فتأخروا
أكد الباحث المغربي محمد الصغير جنجار أن موعد المسلمين مع الأنوار وفهمهم له قد أخلف فعلا، لأنهم [المسلمون] لم يعوا جيداً مفهوم تأسيسه عند الغربيين، وكيف جرت نشأته في الخلفيات التاريخية، من خلال عدد من التحولات الجوهرية التي حكمت على التنوير بنشأته بقوة في عمق الوعي الغربي، وهو ما غفل عنه ولازال المسلمون إلى يومنا هذا.
وأوضح الدكتور محمد الصغير جنجار، مدير مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، في مداخلته التي جاءت بعنوان "هل أخلف المسلمون الموعد مع الأنوار؟"، واحتضنها "صالون جدل" التابع لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، بمقرها بحي أكدال بالرباط، مساء السبت 17 يناير (كانون الثاني) الجاري، أن أربعة تحولات رئيسة، ساهمت في بناء مفاهيم الأنوار لدى الغرب، بدءاً من التحول العميق في الوعي الأوروبي تجاه الدين والظواهر الدينية بصفة عامة، ومروراً بالتراكم المعرفي والعلمي الذي جمعته أوروبا منذ أواسط القرن الخامس العشر، وكذا ميلاد الدولة الحديثة عقب حروب لويس الرابع عشر التي أنتجت الدولة الحديثة، وختاماً، بالثقة العسكرية التي اكتسبت لدى أوروبا، بعد تمكنها من احتلال مناطق مهمة في المشرق، وهي التحولات التي نجحت عدة مجتمعات أخرى في إعادة صياغتها بعد ذلك، من أجل صناعة نهضتها، كاليابان مثلاً، فيما فشلت مجتمعات أخرى في محاولة فهمها فقط، ومنها المجتمعات الإسلامية، فبقيت على ما هي عليه.
سؤال الأنوار التاريخي
وافتتح الباحث المغربي الصغير جنجار مداخلته بالتساؤل، عن "ما هي علاقة المسلمين بالأنوار؟"، وهو السؤال الذي كان حاضراً ولازال عند كل المجتمعات التي عاشت ثورات معرفية كبرى، بدءاً من أول تاريخ ظهر فيه سؤال "ما الأنوار؟" في المجتمع الألماني عندما طرح كسؤال، فأجاب عنه "إيمانويل كانط" في نصه الشهير، قبل أن يخضع لقراءات متعددة كان من أبرزها نص "ميشيل فوكو" الذي جاءت فيه إجابة عن سؤال "ما الفلسفة الحديثة؟" بالقول: "هي هذه المحاولة المتهورة للإجابة عن السؤال الذي طرح منذ قرنين "ما الأنوار؟".
وأوضح جنجار أن ضرورة الإجابة عن هذا السؤال الملازم منذ التاريخ، تفرضها علاقته القوية بتعريف ذلك الآخر، وأيضا لأن التنوير في ذاته يحدد لنا جزئياً، على الأقل ما نحن عليه وما نفكر فيه، ولأن الإجابة عن سؤال "ما الأنوار؟" بقي صعبا في إجابته لاختلافه في التعريف المطلق، مع اختلاف خصوصيات الشعوب والمجتمعات، فإننا نجد تباينا في تعريفه عندما نتنقل بين الحضارات الصينية والهندية واليابانية على سبيل المثال لا الحصر.
وانتقل جنجار ليسائل في مداخلته الواقع العربي الإسلامي، من خلال طرحه سؤالاً ثانيا على السؤال الأول، بالقول: "هل توفقنا فعلا في الإجابة عن هذا السؤال؟"، و"أية مقاربة لهذا السؤال تمكننا من فهمه والإجابة عنه؟"، وانطلق مما خلص إليه عبد الله العروي في هذا الصدد من خلال مقارباته الثلاث في فهم الأنوار عند المسلمين، وهي مقاربة الشيخ أو ما عرف بالأنوار المضادة، ومقاربة التكنوقراطي، أو الأنوار من خلال التكنولوجيا، التي يرى من خلالها التكنوقراطي أن الأنوار ما هي إلا إنتاجات للثورة الصناعية، ثم ثالثاً مقاربة المثقف المعاصر الذي اختزل الأنوار في ترجمة نصوص الآخر عن الأنوار بعد تشبعه أيديولوجيا، ما جعل مقاربته اختزالية بشكل كبير، لأنه حسب ما يشير إليه جنجار، "لا يمكن ترجمة النصوص لتنهض ثورة الأنوار في مجتمع ما".
المقاربة السوسيو- تاريخية لسؤال الأنوار
ولأن الأمر لا يعدو كونه مجرد مسألة نقل الجاهز، فإن جنجار قدم في مداخلته مقاربة أخرى للإجابة عن سؤال "ما التنوير؟"، وهي مقاربته التي تندرج في تخصص سوسيو- تاريخي، وتم استقاؤها من تدوينة خبرية في الأرشيف الفرنسي، أو ما أسماه بـ "سردية الأنوار"، والتي بدأها من لحظة تاريخية أو كما يصطلح عليها بـ "لحظة الصدمة الأولى مع الحدث"، وهذه اللحظة كانت مع حملة نابليون على مصر، وكانت في الأسابيع الأولى التي تلت دخول نابليون إلى مصر، وبالضبط لما وصل إلى القاهرة في مساء 11 ديسمبر (كانون الأول) 1798، حيث نظم في بيت الشيخ السادات، وهو أحد كبار شيوخ القاهرة آنذاك مأدبة عشاء دعي إليها شيوخ القاهرة من الأزهر، ودعي إليها الجنرال نابليون للمحادثة والمذاكرة مع شيوخ القاهرة.
وجاء في هذه الوثيقة المنشورة بتاريخ 22 ديسمبر (كانون الأول) من نفس السنة، ما يلي: "دار الحديث قبل العشاء وبعد العشاء بين الجنرال وشيوخ القاهرة، وفي هذا الحديث قال الجنرال مخاطباً الشيوخ الذين حضروا المأدبة: "في الماضي زمن الخلفاء، تفوق العرب في الفنون والعلوم، ولكنهم اليوم يرزحون في جهل عميق، ولم يفضل لهم شيء من علوم أسلافهم"، فأجابه الشيخ السادات قائلا: "لقد بقي لهم القرآن الكريم وهو يجمع بين دفتيه كل المعارف"، عندئذ سأله الجنرال: "وهل يعلمكم القرآن طرق صناعة المدافع؟"، فأجاب جميع الشيوخ بحماس كبير "نعم".
وهذا المشهد حسب جنجار يمثل اتصال النخبة المسلمة حينها، مع جنرال في نهاية القرن الثامن عشر، هو ابن الأنوار، والذي جاء ومعه في حَملته كل تراث الأنوار.
وينقل جنجار تعليقا على المشهد السابق ما كتبه المحلل النفسي فتحي بنسلامة في كتابه "حرب الذوات" la guerre de subjectivité بأنه "سلط الضوء على قوة نكران الواقع من عوارض بعض الأمراض النفسية، التي ترفض النظر إلى الواقع ، هذا الحدث يبين لنا قوة رفض الواقع عند رجال الدين آنذاك، ذلك النكران الذي سيتخذ صيغا سياسية بعد نشأة حركات أخرى، مثل حركة "الإخوان المسلمين" وجوابهم الذي كان بريئاً وحماسياً، هو الذي سنجده في شعار "الحل هو الإسلام"، ليتطور بعد ذلك في أواخر القرن العشرين في شكل هذيان جماعي أحياناً، يبحث للكشوف العلمية المختلفة عن أصولها في القرآن، وفي التحليل النفسي لهذه اللحظة، ليس لأنها حصلت كذلك، ولكن لأن تداعياتها لازالت إلى اليوم في حياتنا المجتمعية والثقافية".
هذه المقاربة السيوسيو- تاريخية تدفعنا للنظر للأمر من زاوية أخرى كما يؤكد جنجار، "فنابليون هو ابن عصر الأنوار، وهو عندما كان يخاطب شيوخ الأزهر كانت لديه مجموعة من المعلومات عن الوضع الجيو- استراتيجي العالمي، وعن موازن القوى العسكرية، وعن أوضاع المسلمين، وعن ثقافة المسلمين، وعن تراث المسلمين، ولكن، ما لم يكن يتوفر عليه محاوروه، هو كل هذا الكم من المعلومات، وبالتالي فإنه يمكن القول، يضيف جنجار، إن "الجواب البريء والبديهي للشيوخ الذي هو الجواب التقليداني بامتياز كما يذكر ذلك عبد الله العروي، وهو الجواب الذي رأى أنه يأتي في محطات كثيرة من تاريخ المسلمين الحديث"، وهنا ينقل جنجار عن العروي قوله: "الجواب التقليداني هو جواب يفتقد العناصر التي تسمح بوعي اللحظة التاريخية التي يعيشها الفاعل".
تحولات جوهرية في صناعة الأنوار عند الغرب
ويضيف جنجار قائلا: "الجواب التقليداني "نعم، لنا كل شيء في القرآن" هو الجواب الذي يريد أصحابه، أن يبقى على قيد الحياة، رغم أن الوضع التاريخي لم يسمح له بامتلاك ناصية المعلومات كلها التي لدى منافسه". وفي جانب آخر يرى الدكتور الصغير جنجار، أن المحطات التاريخية للأنوار كانت نتيجة لأربعة أنواع من التحولات، وهي التحولات التي كانت لنابليون ولم تكن حينها لشيوخ مصر والنخبة المسلمة عموما آنذاك.
أولى هذه التحولات -حسب جنجار- التحول العميق في الوعي الأوروبي تجاه الدين والظواهر الدينية بصفة عامة، والذي جاء كرد فعل على الحروب الدينية كحرب الـ30 سنة وحرب الفلاحين التي مزقت أوروبا، والتي دفعت في لحظة من اللحظات إلى تشكيل نوع من أزمة وعي، من بريطانيا وإلى غاية روسيا، حاملة معها تساؤلاً حقيقياً مفادها "لماذا وصلنا لكل ما وصلنا إليه على امتداد كل هذه الصراعات"، وهو ما أنتج معه نوعا من الإعجاب بأعلام التحديث والمحدثين، في مقابل الإعجاب الذي كان سائداً بالكنيسة والإغريق وغيرهم، وحلت الثقة في العلم وفي إنجازاته، وبرز الشك كقيمة إيجابية منذ ديكارت، ثم تطور ليصبح في عصر الأنوار سمة إيجابية لا تضعف النفس كما كان يقال، ولكن أصبح الشك فضيلة وقيمة منهجية ومعرفية، ونشأ ذوق جديد، فبعد أن كان الناس يقرأون النص الديني أصبحوا متعلقين بالسرديات والحكايات وأخبار الأسفار، ليظهر موقف جديدة من النصوص المقدسة التي نزعت منها القداسة المعهودة لها، فصارت نصوصا تعرض على الدراسة والتحليل كما باقي النصوص.
وأما التحول الثاني الذي تحكم في نشأة الأنوار كما يوضح جنجار، فيتركز في التراكم المعرفي والعلمي الذي راكمته أوروبا منذ أواسط القرن الخامس العشر، والذي جاء منذ اكتشاف الطباعة وهو الاكتشاف الذي جاء بمؤلفات كبيرة راكمت المعرفة ووزعتها على ربوع أوروبا، عبر ما يزيد عن قرنين ونصف، وهذه الطباعة كان لها الأثر في تغيير الفكر الأوروبي بصفة عامة وأتت بكتابات من مختلف الجهات، شملت كتباً عربية أيضا كان أهمها القرآن، الذي ترجم وطبع في طبعات عديدة، في خضم اهتمام أوروبا بالمشرق وما ينتجه في مجالات المعرفة، بصفة عامة، خصوصا مع انتهاء المستعمرات الأمريكية والتطلع نحو استعمار الأراضي المشرقية.
وأما التحول الثالث الذي تحكم بدوره في الأنوار، فيوضح جنجار أنه متعلق بميلاد الدولة الحديثة في أوروبا، إذ إن حروب لويس الرابع عشر ستنتج الدولة الجديدة الفرنسية التي ستوحد التراب، وتفرض سياسة ضريبية بشكل حديث، وتبني الإدارة، وتشق الطرق، وتعقلن الآلة العسكرية والجيش، وهذه الأخيرة هي التي حكمت العلاقة بين الغرب والمشرق لاحقا، وهي الأساس الذي سارت عليه حملة نابليون إلى المشرق.
التحول الرابع والأخير حسب المحاضر هو حدث هز العالم، ولم يُنتبه إليه في المشرق، حدث وقع في عام 1612، حيث كان جيش صغير ينتمي إلى ما كان يسمى "الشركة البريطانية للهند الشرقية"، التي كان لها الدور المرجعي في المشرق، كونها زرعت نوعاً من الثقة العسكرية لدى أوروبا، بعدما تمكنت من احتلال بلاد البنغال بأكملها، والتي يفوق عدد سكانها، سكان بريطانيا كلها بأربع مرات حينها، ما فتح أمام أوروبا ثقة كبرى في فتح البلاد المشرقية ليصل الأمر لاحتلال شبه الجزيرة الهندية خلال سنوات قليلة.
ويخلص جنجار إلى أن هذه التحولات هي التي حملها معه نابليون عند لقائه بشيوخ مصر في حملته، وهي ذاتها التي غابت كل الغياب عن شيوخ مصر، ولذلك فإن المفارقة التي حصلت هو أن هذا التفوق المعرفي لعصر الأنوار حصل قبل الثورة الصناعية، ولذلك فإن المؤرخين يقولون بأن الجيوش الأوروبية في أواسط القرن الثامن عشر، لم تكن متفوقة من ناحية السلاح على الجيوش المشرقية، لكن تفوقها كان في العقلنة والتدريب والتنظيم والقيادة، وهذا التفوق كان كذلك أيضا، لأن نصف شعوب أوروبا كانوا في القرن الثامن عشر يقرؤون ويكتبون، وهو ما كان يسري على قياداتهم أيضا وجيوشهم، بالمقابل وحتى بداية القرن العشرين كانت نسبة المتعلمين في مصر أقل من 4 بالمئة، بالتالي يظهر جليا هنا الفرق بين نابليون وشيوخ الأزهر في لقائهم مع نهاية القرن 18.
وهذه العناصر والتحولات التي سردت تسري على باقي المجتمعات الحديثة أيضا، ومنها على سبيل المثال، ما توقف عنده المحاضر من النموذج الياباني الذي التقط أصحابه التجربة الأوروبية، وفكوا رموزها واعتبروا أن النقلة هي نقلة تربوية تعليمية ثقافية، فنجحوا في تطبيقها، لأن الأنوار التي حدثت في أوروبا حدثت قبل الثورة الصناعية، يضيف جنجار، "وهذا على عكس ما يدرس في مناهجنا مغالطة عند التحدث عن النهضة العربية، والتي يرد فيها أن تفوق الغرب المادي هو السبب في تفوقهم الحالي، وهو ما يجانب الصواب، إذ لم يكن للغرب تفوق مادي في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، بل كانوا بنفس مستوى الإمبراطورية العثمانية والصفوية والمغولية في العالم الإسلامي، لكن تفوقهم انطلق تعليميا وفكريا، وهذا هو الذي سيؤدي في أواسط القرن التاسع عشر إلى ثورة صناعية ستجعل التفوق تفوقا نهائيا وشبه نهائي.
واختتم جنجار حديثه الممتع في الموضوع بالتوضيح أن "الذي حصل في هذا الموعد الذي أخلفناه إلى حد كبير، هو أن الرجل –نابليون- الذي كان يحمل معه تراث الأنوار وتراث ثلاثة قرون من التغيير والإصلاح والتجديد، قرأ فيه الشيوخ اختزالاً بأنه ابن المسيحية وابن الصليبية، وأجابوه بجواب تقليداني، بينما الرجل كان آتيا بعداء للدين، وبرفض للدين، وكان نتاجاً للمنظومة التنويرية التي كانت في فرنسا معادية للدين، بالتالي فإن طريقة فكهم (الشيوخ) للغز الآخر(نابليون) كانت خاطئة، لأن مجتمعهم لم يقم قبل ذلك بالإصلاحات المطلوبة لمواجهة التحدي في لحظة المواجهة كما حدث في اليابان"، ولذلك يشير جنجار إلى أن السؤال الذي يبقى قائما من وراء كل هذا هو: "هل وعينا نحن المسلمون درس هذا اللقاء في 11 ديسمبر 1798؟ أم مازلنا نكرر نفس عدم وعي اللحظة التاريخية التي نحن فيها؟".