ورشة تكوينية حول مناهج البحث والتأليف في العلوم الإنسانية
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث سلسلة من الورشات التكوينية للباحثين الشبان، تركّزت على كيفية كتابة مقال علمي في الحضارة أو الفلسفة أو علم الاجتماع، أشرف عليها الأستاذ محمد محجوب، وقدمها كل من الأساتذة المنصف بن عبد الجليل (الحضارة) وفتحي انقزو (الفلسفة) ومنير السعيداني (علم الاجتماع).
في خصائص النص الحضاري
افتتحت الورشات التي تواصلت على مدى يومي 10 و11 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، بالمقر المشترك لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ورابطة تونس للثقافة والتعدد، بمحاضرة للأستاذ منصف بن عبد الجليل عن النص الحضاري. وحدد الأستاذ عبد الجليل في مستهل محاضرته شرطي كل مقال علمي يمكن أن يدرج ضمن المجلات الأكاديمية العلمية الغربية المحكمة المعتمدة في الدراسات العلمية: تحقيق شرط الإضافة والطرافة بعيداً عن التكرار والاستنساخ؛ والدقة العلمية في وضوح المصطلحات ودقة العبارة واعتماد الحجاج قصد الإقناع.
وبين أن "البحث العلمي في أي موضوع سواء تشكل في صيغة مقال أو أطروحة هو ضبط للحدود واستخراج لإشكالية لم يسبق إليها أو يراجعها، ويستنتج من ذلك ما يطلق عليه "المسألة" واليوم "إشكالية".
وعاد الأستاذ عبد الجليل في القسم الأول من مداخلته التي بنيت على تساؤل رئيس: هل يوجد نص يمكن وسمه بالنص الحضاري؟ إلى تاريخ نشأة هذا النص في الجامعة التونسية في سبعينيات القرن الماضي، بوصفه فرعاً ثالثاً لاثنين آخرين في مادة العربية هما الدراسات اللغوية والأدب.
وتساءل: كيف نميز نصاً أدبياً عن نص حضاري؟ وكيف نميز نصاً لغوياً عن نص حضاري أو عن نص أدبي؟ موضحاً أن هذا التمييز يعود إلى ثلاثة مقومات:
المقوم الأول: المتن والموضوع المطروق ذاته.
المقوم الثاني: وهو عين القارئ للنص ومذهبه في الاستقراء، وطريقته في التفهم، ووجه فهمه للأشياء.
المقوم الثالث: ويتعلق ببناء النص الذي يجب أن يبنى على منهج دقيق له معالمه وضوابطه.
وعرج الأستاذ عبد الجليل، في القسم الثاني من مداخلته، على مصاعب البحث في الأطروحة أو في المقال فذكر جملة من الصعوبات التي تعترض الباحث في مجال الدراسات الحضارية أهمها:
- من أين تؤخذ القضايا المدروسة؟ من أين تستدرج تلك المتون؟ وكيف يجمع السؤال من مدونة ضيقة أحياناً أو واسعة للغاية؟ كيف الجمع بين المكتوب والشفوي؟ كيف استثمار ما يسّرته بعض البحوث الأثرية؟ كيف الجمع في رؤية متناسقة بين أصناف عديدة من المصادر؟ كيف تصنع الوثاقة مما لا يوثق به؟
- تتعلق الصعوبة الثالثة بتحديد المنهج الأنسب لطرق المسألة، وتساءل: هل يمكن أن نتحدث عن منهج حضاري خاص؟ ويقصد العين التي تُختار ليُنظر من خلالها إلى تلك المتون موضوع الدراسة. وبين أن المشترك بين كل المناهج هو الاستفهام والتفهم والاستقراء والتفكيك وإعادة التركيب باستثناء "المنهج الإيماني التمجيدي".
ووجه جملة من التوجيهات تخص المنهج أهمها:
- تقدير ألا وجود لأفكار مقتطعة من التاريخ، لأن كل فكرة متصلة بواقعها، ومسألة التاريخ ليست وهمية، إنما هي مسألة فاعلين لهم أوصاف وأوضاع وعقائد، وكل هذه تعتمل بشكل من الأشكال.
- تنشأ المقالة على عقب سلفها؛ فكل موقف أو ظاهرة، إنما هي في صلب بنائها حجاجية تبني على قدر ما تقوض وتغير أو تحول، والمهم أن نفهم هذا التناسل.
وأما الصعوبة الثالثة: فتتمثل في أن كل هذه القراءة والتفهم الذي يجرى على لسان الباحث، إنما يريد أن تكون نتائجه محدودة قابلة للتطوير صادقة إلى حين، لتُفتح أبواب أخرى، وبهذا يكون البحث مولداً لبحوث أخرى.
واختص القسم الثالث من مداخلته بأسلوب الكتابة وصياغة التحرير (كيف نكتب) مشدداً على ضرورة أن يحرر المقال بـ"روح الباحث العلمية"؛ أي بما يظهر عند القراءة مدى التزام الباحث بتلك الروح العامة التي يسميها "الروح النقدية في العمل" التي لا تعني تكسير كل شيء، إنما هو القول بميزان وتقدير، خاضعة لشروط عديدة أهمها: المصطلحات الدقيقة التي تعبر عن وعي بلا إسهاب، حتى لا تزيد الجملة عن حدها؛ وضرورة التخطيط الذي يحدد هيكل كل عمل؛ وضرورة أن يبنى النص على أطروحة فيها جدة وطرافة وموقف؛ وأن يكشف الباحث بالصدق الكامل، إن صراحة أو إحالة، على الإحالات التي رجع إليها.
الميمات الخمس
مقدمة مراجعة منهج ميدان مناقشة، وهي تطوير لبنية "IMRAD" المعتمدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية من قبل عديد الجمعيات العلمية في علم الاجتماع، وتعتبر شرطا للتأليف العلمي.
كيف يتم تنظيم هذه البنية والعلاقة بين مكوناتها؟
نحتاج إلى تقديم ما نبحث فيه بشكل مركز مكثف، ولكن ما الذي نضعه في المقدمة وبأية كثافة؟
في التقديم نحتاج إلى تحديد إشكالية البحث بشكل دقيق، ونضع التمشي الذي سنعتمده في الإجابة عن السؤال الرئيس، ونشير إلى فرضيات البحث الكبرى وتفريعها إلى أهداف جزئية.
المراجعة: قراءة نقدية لما سبق من بحوث في المسألة؛ مراجعة ما كان من أدبيات في تلك المسألة البحثية؛ لأن البحث لا يكون من فراغ، إنما يستند إلى تراث بحثي ونظري ومفهومي استخدم في المسألة، كي يثبت البحث أنه على دراية بالسابق ويندرج في سياق التركيم العلمي.
المنهج: كيف عالجت المسألة التي عرضتها في بداية بحثك؟ السؤال هو: كيف حصلت على تلك البيانات التي استخدمتها؟ ما هو المجال المكاني والزماني الذي بحثت فيه؟ إلى من توجهت بأسئلتك واستبياناتك؟ لماذا استجوبتهم هم بالضبط؟ ما مواصفاتهم السوسيولوجية؟
الميدان: حصيلة البحث الميداني: ما هي الحقائق السوسيولوجية التي حصلت عليها؟ عرض حصيلة البحث الميداني بأكثر ما أمكن من الوضوح لنستخدم بعض أساليب العرض: الرسوم البيانية، خرائط، أدلة، جداول..
المناقشة: نناقش ما الذي تعنيه هذه المعطيات بالنسبة إلى السؤال البحثي الذي وضعته؟ ما هي الاستخلاصات التي أتوصل إليها عندما أخضع بياناتي إلى الإشكالية التي وضعتها؟ هل المعطيات تؤكد الفرضية أم تفندها؟ ما هي خصائص الحالة التي درستها؟ مواقف المبحوثين توجهاتهم... أناقش أيضا نتائج البحث بالنسبة إلى المنهجية التي عرضتها.
لا بد من توثيق البيانات بدقة كبيرة المصادر والمراجع...
بنية التأليف الاجتماعي: بنية فيها جملة من الإيجابيات كما فيها جملة من السلبيات.
- بنية يمكن أن تمثل نوعا من المقياس الذي على أساسه يمكن أن نعير البحوث من حيث العلمية؛ بنية تنظم "المباراة" التي تحدث بين الباحثين من حيث أمانتهم العلمية.
- مساعدة القارئ على تمثل لب ما تريد إيصاله إليه بفضل البناء المحكم والعناوين والعلامات التصنيفية لأجزاء العمل.
- السلبيات: كثير الصلابة لا يسمح بالكثير من الاجتهاد
- قليلا ما يكون وفيا في تصوير ما أجري فعلا بظروفه ومصاعبه وإشكالاته، وبين ما يطلب منا أن نعرض باعتماد هذه البنية؛ لذلك يقال إنه شكلاني.
كبرى النصوص التأويلية
أما الدكتور فتحي انقزو، فقد تركزت مداخلته على تقنيات الكتابة في مجال التأويليات وقد قسمها إلى ثلاثة سياقات: أولها مجال الإنسانيات بوصفها المجال الأوسع لاهتماماتنا بمختلف التخصصات، ثم بوصفها مقابلاً للدراسات في العلوم الوضعية والتجريبية والصورية؛ وثانيها مجال التأويلية الذي ينتقل بنا إلى مجال أخص هو مجال المنظومة النصوص التأويلية (الكبرى) وحكمها وترتيبها. ولها مستويان: مستوى عمومي يخص الحياة اليومية ووجه صناعي يتعلق بما يسميه "منظومة القواعد"؛ أي بالنص المكتوب تحديداً؛ وثالث السياقات ينتقل بنا من دائرة المستوى التاريخي المتعلق بتاريخ التأويلية ذاتها إلى دائرة التنظير، التي تحدث فرقاً في كونها تصوغ مبادئ نظريات الفهم، وتنظر إلى هذه النصوص من رتبة عليا، و"هذا يعني أن التأويلية ليست نظرية في جوهرها" بل إنها تطبيقية في المقام الأول.
وقال الدكتور انقزو: "إن أخذنا المحور الأول وما يتعين أن نأخذه من الاحتياط في النظر إلى هذه النسبية أو هذا العبور أو هذا التواصل بين الدراسات الإنسانية والدراسات التأويلية، وجدنا أن الأمر ينبغي أن يدرج تحت عنوان ما سميته "الدوائر والوسائط" لسبب أساسي، وهو أن هذا النمط من الفكر لا يعالج موضوعات معالجة مباشرة".
ثم انتقل إلى المحور الثاني الذي يعتبره درجة متقدمة في تصور العمل التأويلي كمجال بحث في الإنسانيات والفلسفة ويتعلق تحديداً بثلاثة أسئلة هامة:
- هوية النص التأويلي ويتعلق بتحديد هوية: ما هو معنى النص التأويلي؟ ما معنى أن يكون النص تأويليا دون غيره.
- تاريخية النص التأويلي: فإذا كانت هناك نصوص تأويلية فكيف تنتظم؟ كيف يرتبط بعضها ببعض؟ هل يمكن أن تنجح هذه النصوص في تشكيل رصيد متناسق متكامل يمكن أن نسميه "تاريخ التأويلية"؟
- تفاعل النص التأويلي مع غيره من النصوص: أي ما هي العلاقات الممكنة بين هذه النصوص والنصوص الشبيهة بها في المنظومات الفلسفية أو العلمية؟
وبين الدكتور انقزو أن هذه الأسئلة تمثل "شروطاً دنيا للتفكير في جدارة النص التأويلي بالبحث والتفكير"، وليست هناك إجابات حاسمة لهذه الأسئلة لأنها متصلة بممكنات التفكير الفلسفي. ثم استخلص أن العملية التأويلية، وإن كانت عامة متخللة للوجود الإنساني، فإنها متحققة في نصوص تتنزل في التاريخ، وأنها عملية صناعية تقتضي من الأدوار ما يمكنها من الإقبال على مطلوبها بالتوسط والمداورة.
وأشار الدكتور انقزو إلى الجدل "المستديم" بين التنظير والتطبيق الذي يطرح كثيراً من سوء الفهم والمشكلات، وقد اختصم الفلاسفة في شأنه منذ قرون عديدة، ويمكن تلخيص أهم النقاط المتنازع عليها في ثلاثة خطوط: وجود النصوص التأويلية؛ وصياغة المبادئ بناء على هذه النصوص؛ والتطبيق.
يذكر أن الورشات الثلاث قد اختتمت بمساحة خصصت للنقاش حول الأعمال البحثية التي سيقوم بها الطلبة المشاركون في الورشة، والتي ستليها محطات بحثية أخرى أشار إليها الدكتور محمد محجوب الذي اعتبر أن الورشة قد حققت المرجو منها، وأنها ستكون أنجح بمحطتها الوسطى في شهر فبراير (شباط) القادم وطلب إلى الباحثين إعداد ملخصات دقيقة مفصلة عن مشاريعهم البحثية التي يعدونها في إطار الورشة، كي تنتهي إلى المتابعة والتعديل من قبل الأساتذة المشرفين، وتمر إلى النشر في مرحلة أخيرة بعد أن تكون في صيغتها النهائية.