اﻟﻌﺪد
(12)
197
اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻻﻣﺘﺰاﺟﺎت واﻹﺣﺮاﺟﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ وﺗﻨﺒﺜﻖ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﳌﻨﻔﺼﻞ، ﺛﻢ
اﳌﺘﻘﺎﻃﻊ واﳌﺘﺸﺎﺑﻚ ﻣﻊ ﻫﺬا وذاك.
اﻟﻨﺴﻴﺎن: اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺴﻮداء
ﻻ يمﻜﻦ اﻟﺘﻔﻜير ﰲ اﻟﺬاﻛﺮة، و ﻻ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ، ﻣﻦ دون ﻓﻬﻢ ﻟﻠﻨﺴﻴﺎن. واﻟﻨﺴﻴﺎن ﻋﻼﻣﺔ ﻋﲆ ﻫﺸﺎﺷﺔ
اﻟﻮﺿﻊ اﻹﻧﺴﺎني، وﺗﺤﺪﱟ ﻳﻮاﺟﻪ ﻃﻤﻮح اﻟﺬاﻛﺮة إﱃ اﻟﻮﻓﺎء واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ.
يمﺜﻞ اﻟﻨﺴﻴﺎن، أوّﻻً وﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﳾء، اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺴﻠﺒﻲ ﻟﻠﺬاﻛﺮة واﻟﺘﺎرﻳﺦ؛ ﻷﻧﻪ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺿﻴﺎع ﻟﻶﺛﺎر
اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻛﻬﺎ اﳌﺎﴈ. وﻫﺬا اﻟﻨﺴﻴﺎن ﻳُﻌﺪﱡ ﻧﺴﻴﺎﻧﺎً ﻋﻤﻴﻘﺎً، وﻓﻘﺪاﻧﺎً ﻟﻠﺬاﻛﺮة، اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ اﻣّﺤﺎء اﻵﺛﺎر ﻋﲆ
ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺪﻣﺎغ. وﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ﻫﺬا اﻟﻨﺴﻴﺎن ﻣﻊ ﺿﻴﺎع اﻟﻮﺛﺎﺋﻖ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ، أو اﺣﱰاق ﻣﻜﺘﺒﺔ، أو ﺗﺪﻣير
ﻣَﻌْﻠﻢ أو ﻧُﺼﺐ... وﻫﻮ ﺻﻮرة ﻟﻠﺬي ﻻ رﺟﻌﺔ ﻓﻴﻪ؛ ﻓﺎﻵﺛﺎر اﳌﻤﺤﻮة ﺗﻌﻨﻲ ﻻ وﺟﻮد ﻟﻠﺬاﻛﺮة وﻟﺘﺎرﻳﺦ
ﻣﻤﻜﻦ. إن اﻟﻔﺮاغ اﻟﺬي ﻳﻔﺘﺤﻪ اﻟﻨﺴﻴﺎن ﻳﺒﻘﻰ ﻓﺮاﻏﺎً ﻣﻔﺘﻮﺣﺎً.
وﻟﻜﻦ، ثمﺔ ﺷﻜﻞ آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﻴﺎن ﻳﻌﺪﱡ ﴍط إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺬاﻛﺮة ﻧﻔﺴﻬﺎ، أﻻ وﻫﻮ اﻟﻨﺴﻴﺎن اﻻﺣﺘﻴﺎﻃﻲ.
وﻳﺘﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﺴﻴﺎن ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻜﻤﻮن اﻟﺬي ﻳﺒﻘﻲ اﻟﺬﻛﺮﻳﺎت ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ، أو ﺗﻈﻬﺮﻫﺎ اﳌﺼﺎدﻓﺔ. وﻳﺴﻤﺢ
اﻟﻨﺴﻴﺎن اﻻﺣﺘﻴﺎﻃﻲ ﺑﻌﻤﻞ اﻟﺬاﻛﺮة اﻟﺬي ﺑﻪ ﻻ ﻧﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﺬﻛّﺮ ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﻛﻞ وﻗﺖ. وﻳﺸﻜّﻞ ﻫﺬا
اﻟﻮﺟﻮد »اﻟﻼﺷﻌﻮري« ﻟﻠﺬاﻛﺮة، وﻟﻶﺛﺎر اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ، ﻧﺴﻴﺎﻧﺎً اﻧﻌﻜﺎﺳﻴّﺎً، وﺗﻔﻌﻴﻼً ﻟﺤﻔﻆ اﻟﺬﻛﺮى ﰲ اﻟﺬاﻛﺮة.
لم ﻳﻀﻊ اﻷﺛﺮ، إنمّﺎ ﻫﻮ ﻏير ﻣﺘﺎح ﻓﺤﺴﺐ. ﻛﺘﺐ ﺑﻮل رﻳﻜﻮر ﻳﻘﻮل: »ﺿﺪ اﻟﻨﺴﻴﺎن اﳌﺪﻣﺮ ﻫﻨﺎﻟﻚ
اﻟﻨﺴﻴﺎن اﻻﺣﺘﻴﺎﻃﻲ«. وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس، ﺗﻢّ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺰ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻮﺿﻮع اﳌﻨﺎﻗﺸﺔ
ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ. ﻓﺈذا ﻗﻠﻨﺎ ﻋﻦ اﳌﺎﴈ إﻧﻪ لم ﻳﻌﺪ ﻗﺎئمﺎً، إنمّﺎ ﻛﺎن، ﻓﻸﻧﻪ أﺻﺒﺢ ﻏﺎﺋﺒﺎً، وﻷﻧﻪ لم ﻳﻌﺪ ﺗﺤﺖ
ﺗﴫﻓﻨﺎ، أو ﰲ ﻣﺘﻨﺎوﻟﻨﺎ، ﺣﺘﻰ إن دﻟﱠﺖ أﺳﺒﻘﻴﺘﻪ ﻋﲆ ﺣﻔﻈﻪ. إن ﻣﻔﺎرﻗﺔ ﺣﻀﻮر اﳌﺎﴈ ﰲ اﻟﺬﻛﺮى
.(3
، اﻟﻔﺼﻞ
III
ﺗﻨﺒﺜﻖ ﻫﻜﺬا ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﺴﻴﺎن اﻟﺬي »ﻳﻔﻀﻞ )ﻣﺎ ﻛﺎن( ﻋﲆ )ﻣﺎ لم ﻳﻌﺪ(« )اﻟﻘﺴﻢ
اﻟﻨﺴﻴﺎن اﻻﺣﺘﻴﺎﻃﻲ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺬاﻛﺮة ﻣﻤﻜﻨﺔ، وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺤﺎل ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻻﻋﱰاف أو اﻟﺘﻌﺮّف.
ذاك ﻫﻮ اﳌﺴﺎر اﻟﺬي ﺧﺎﺿﻪ ﺑﻮل رﻳﻜﻮر ﰲ )اﻟﺬاﻛﺮة، اﻟﺘﺎرﻳﺦ، اﻟﻨﺴﻴﺎن( ﺣﻮل اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑﺎﻟﺰﻣﻦ
واﳌﺎﴈ واﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ اﻟﺬي ﻫﻮ ﻧﺤﻦ. وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑين اﻟﺬاﻛﺮة واﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻻ ﺗﺰال ﻣﻌﻘّﺪة،
ﻓﺈن اﻟﺮواﺑﻂ اﻟﺤﻤﻴﻤﺔ ﺑين ﻫﺬه وذاك ﻗﺪ ﺗﻢّ اﺳﺘﻜﺸﺎﻓﻬﺎ؛ اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺎدر ﻋﲆ اﻟﺘﺬﻛﺮ، وﻋﲆ أن ﻳﺼﻮّر
ﻟﻨﻔﺴﻪ وﻟﻐيره اﳌﺎﴈ اﳌﻨﻈﻮر إﻟﻴﻪ، ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، ﻋﲆ أﻧﻪ ذاﻛﺮة، وﺗﺎرﻳﺦ، وﻧﺴﻴﺎن. ولم ﺗُﻌﻂَ
اﻷوﻟﻮﻳﺔ إﱃ أيّ واﺣﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻟﻔﺎظ اﻟﺜﻼﺛﺔ اﳌﺘﻤﻴﺰة )وﺣﺪه اﻟﻘﺎرئ، و»ﻣﻨﻪ اﳌﻮاﻃﻦ«، يمﻜﻦ ﻟﻪ
أن ﻳﻔﺼﻞ ﰲ اﻷﻣﺮ( ذﻟﻚ ﻷن وﺟﻮدﻧﺎ ﰲ اﻟﺰﻣﻦ ﻫﻮ ﻫﺬا ﻛﻠّﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ.
ﺑﻘﻠﻢ: إيمﺎﻧﻮﻳﻞ ﻣﺎﻛﺮون/ ﺗﺮﺟﻤﺔ: اﻟﺰواوي ﺑﻐﻮره