اﻟﻌﺪد
(12)
192
اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺸﻜﻮك اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ، وﺗﻘﺪيمﻬﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ ﺻﻮرة. وﺑﺬﻟﻚ ﻳُﻄﺮح اﻟﺴﺆال: أﻟﻴﺲ
ﻣﺎ ﻳﺮوﻳﻪ اﳌﺆرّخ ﻣﺠﺮد ﴎاب، وأن اﳌﺎﴈ اﻟﺬي يمﺜﻠﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻫﻮ ﳾء آﺧﺮ؟ وﻫﻨﺎ ﺗُﻄﺮح
ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺜﻘﺔ؛ اﻟﺜﻘﺔ ﰲ اﻟﺸﻬﺎدات وﰲ اﻵﺛﺎر. وﻟﻜﻦ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﺮّف ﺗﻔﺘﺢ اﳌﺠﺎل أﻣﺎم
اﻟﺸﻚ اﻟﻌﻠﻤﻲ واﻟﻨﻘﺪي، اﻟﺬي ﻳﺆدي إﱃ اﻵﺛﺎر، وﻳﻌﻴﺪ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﺘﻔﺴيرات، وﻳﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻏيرﻫﺎ.
وﻫﺬا اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺪؤوب، واﳌﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻌﺮّف، ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺸﻜﻞ وﺻﻢ وﺧﺘﻢ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ، اﻟﺬي
ﻳﻄﺮح ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﺜﻘﺔ واﻟﺸﻬﺎدة ﰲ ﻗﻠﺐ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ )اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺘﺎزﻫﺎ ﺑﺪءاً ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺎدة
إﱃ ﻏﺎﻳﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ(، وﻳﻨﻔﺘﺢ ﻫﺬا اﻟﻨﻘﺪ ﻋﲆ ﻧﻘﺎﺷﺎت ﻻ ﺣﺪّ ﻟﻬﺎ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ اﻻﻗﱰاب ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ
اﻟﺘﺎرﻳﺦ.
وﻫﻜﺬا، ﻳﻜﺘﺴﺐ ﻟﻐﺰ تمﺜﻴﻞ اﳌﺎﴈ درﺟﺘﻪ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﻠﺔ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﺪ ﻫﻨﺎ
اﻻﺳﺘﻌﺼﺎءات اﳌﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺼﻮرة واﻵﺛﺎر ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻘﺎﻃﻊ ﻣﻊ ﺗﺤﻠﻴﻞ اﻟﺬاﻛﺮة، ﻛما ﺗﻈﻬﺮ ﻣﺸﻜﻼت
ﺟﺪﻳﺪة، ﻛﻤﺸﻜﻠﺔ ﻋﺮض اﳌﺎﴈ ﰲ اﻟﺨﻄﺎب اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ اﻟﺬي ﻳﺨﻠﻂ اﻷوراق ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﺑين اﻟﺘﺎرﻳﺦ
واﻟﻮﻫﻢ، أو اﻟﺘﺨﻴﻞ. وﻻﺳﻴّما أﻧﻪ ﻣﻦ ﺑﺎب اﻻﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺘﻘﺪم ﺑﺎﻟﺤﻞ اﳌﺆﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﺴﻤﺢ
ﺑﻪ اﻟﺘﻌﺮف ﰲ اﻟﺬاﻛﺮة؛ ﻷن اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻳﺒﻘﻰ دائمﺎً رﻫين ﺗﻠﻚ اﳌﺴﺎﻓﺔ ﻣﻊ آﺛﺎره اﻟﺨﺎﺻﺔ، وﻣﻊ ﻣﻀﻤﻮﻧﻪ
اﻟﺨﺎص، ﻣﺴﺎﻓﺔ ﺗﺸﺒﻪ اﻟﺪواء اﻟﺬي ﺗﺤﻮّل إﱃ ﺳُﻢّ...
إﺳﻨﺎد ﺗﺼﻮرات اﳌﺎﴈ: ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺬوات
أﻇﻬﺮ ﺗﺤﻠﻴﻞ اﻟﺬاﻛﺮة واﻟﺘﺎرﻳﺦ »ذواﺗﺎً« ﻣﺨﺘﻠﻔﺔً؛ وذﻟﻚ ﻷن اﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ﺧﻠﻒ ﺳﺆال »ﻣﺎ« ﻳﻈﻬﺮ
ﺳﺆاﻻً آﺧﺮ ﻫﻮ »ﻣَﻦ«. وﻫﺬه اﻟﺬوات ﺗﺘﺸﺎﺑﻚ وﺗﺘﻘﺎﻃﻊ، وﺗُﻀﺎف إﱃ إﺷﻜﺎﻟﻴﺔ اﳌﺎﴈ. وﻧﻈﺮﻳﺎت
اﻹﺳﻨﺎد )اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺬاﻛﺮة، واﳌﺴﺆوﻟﻴﺔ...(، اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﺑﻮل رﻳﻜﻮر ﺑﻌﻤﻖ، ﺗﻄﺮح ﻣﺴﺄﻟﺔ »ﻣَﻦ«
ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔً أﺳﺎﺳﻴﺔً؛ ﻷن اﻟﻌﻼﻗﺎت ﻣﻊ اﳌﺎﴈ ﺗُﻨﺴَﺞ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻷدوار اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ ﻛﻞّ
واﺣﺪ.
وﺑﺎﻟﻔﻌﻞ، إنّ اﻟﺬاﻛﺮة ﻟﻴﺴﺖ دائمﺎً ذاﻛﺮﺗـ)ي(؛ ﻓﺜﻤﺔ إﺳﻨﺎد إﱃ اﻟﺬاﻛﺮة ﻳﺨﺺ ﺛﻼﺛﺔ أﻧﻮاع ﻣﻦ
اﻟﺬاوت: اﻷﻧﺎ، اﻷﻗﺮﺑين، اﻵﺧﺮﻳﻦ. وﻳﺴﻤﺢ ﻫﺬا اﻹﺳﻨﺎد اﳌﺘﻌﺪد ﺑﺘﺤﺪﻳﺪ إﺷﻜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺬاﻛﺮة ﰲ اﺳﺘﻤﺮارﻫﺎ،
واﻧﺘﻘﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺬاﻛﺮة اﻟﻔﺮدﻳﺔ إﱃ اﻟﺬاﻛﺮة اﻟﺠماﻋﻴﺔ. وﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس، يمﻜﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﳌﺴﺎﻓﺔ اﻟﻘﺎئمﺔ
ﺑين ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ اﻷﺧير ﻣﻦ اﻟﺬاﻛﺮة وﺑين اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻧﻔﺴﻪ. أﻣّﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺦ، ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻪ ﻣﻦ ذات إﻻ اﻟﺬات اﻟﺘﻲ
ﺗﻜﺘﺒﻪ، واﳌﺘﻤﺜﻠﺔ ﰲ اﳌﺆرّخ. ﻳﻘﻮم ﻫﺬا اﳌﺆرّخ ﺑﺪور ﻋﻠﻤﻲ ﻣﺜﺒﺖ، وذﻟﻚ وﻓﻘﺎً ﳌﺎ ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻪ ﻣﺮاﺣﻞ
اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻣﻦ ﺗﻔﺴير. وأﻣّﺎ اﻟﺬات اﻟﻘﺎرﺋﺔ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ، ﻓﺘﺒﻘﻰ ذاﺗﺎً ﻏير ﻣﻌﺮوﻓﺔ؛ وﻫﺬا اﻟﻘﺎرئ
( إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ
anonyme)
ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮه اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﳌﻜﺘﻮب ﻋﱪ اﻷﺟﻴﺎل، اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻃﺎﺑﻌﻪ اﻟﻐﻔﻞ
اﳌﺎﴈ وﻧﻮره اﻷﺑﻴﺾ: ﺣﻮل ﻛﺘﺎب )اﻟﺬاﻛﺮة، اﻟﺘﺎرﻳﺦ، اﻟﻨﺴﻴﺎن( ﻟﺒﻮل رﻳﻜﻮر