اﻟﻌﺪد
(12)
207
، ﻳﻼزﻣﻪ ﺗﺼﻮّر ﻧﻘﺪي ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻳُﻘﺮﺑﻪ
26
يمﻨﻊ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺼﻮّر اﻟﻨﺴﺒﻮي ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻛﻞّ دوﻏماﺋﻴﺔ ﻣﻤﻜﻨﺔ
إﱃ »روح اﻟﺠﺪال« أﻛثر ﻣﻦ ﺗﻘﺮﻳﺒﻪ ﻣﻦ ﻣﻠﻜﺔ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺠﻴﺪ اﻟﻘﺎدرة ﻋﲆ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑين اﻟﺤﻖ واﻟﺒﺎﻃﻞ،
اﻟﺘﻲ ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ ﻋﺎدة اﻟﺤﺲّ اﻟﺴﻠﻴﻢ.
ﻳﺮﻓﺾ ﻻﻳﺒﻨﺘﺰ، ﰲ اﻵن ﻧﻔﺴﻪ، اﻟﺘﺼﻮّر اﻟﺬي ﻳﻘﺪﻣﻪ ﺑﺎﻳﻞ، واﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﻟﻠﻌﻘﻞ؛ ﻓﻠﻴﺲ اﻟﻌﻘﻞ
، وﻻ »ﻫﻮ آراء وأﻗﻮال اﻟﻨﺎس وﻻ اﻟﻌﺎدات اﻟﺘﻲ
27
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ ﻣﻠﻜﺔ »اﻟﺘﻌﻘّﻞ ﺑﺼﻮرة ﺟﻴﺪة أو ﺳﻴﺌﺔ«
، وإﻻ ﻓﺈنّ اﻟﻌﻘﻞ، ﺑﻬﺬا اﳌﻌﻨﻰ،
28
ﺗﻌﻮدوا ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺤﺴﺐ ﺳير اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ«
ﺳﻴﻘﻊ ﻓﻌﻼً ﰲ اﻟﺨﻄﺄ. ﻟﻴﺲ اﻟﻌﻘﻞ أﻳﻀﺎً ﻣﻘﻮّم اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أو أﺣﺪ ﻣﺼﺎدرﻫﺎ. إنّ اﻟﻌﻘﻞ ﻋﻨﺪ ﻻﻳﺒﻨﺘﺰ ﻫﻮ
»اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ، واﻟﺘﻲ ﻳﺠﻌﻞ ارﺗﺒﺎﻃﻬﺎ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ أﺧﺮى ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﺑﺄﻗﻞ درﺟﺔ، ﻧﻘﺒﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ
. ﻟﻬﺬا اﻟﺘﺪﻗﻴﻖ أﻫﻤﻴﺔ: ﻓﻠﻴﺲ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﺑﻞ ﺳﺒﺒﻬﺎ وﻣﺒﺪأ ﻣﻌﻘﻮﻟﻴّﺘﻬﺎ. ﻟﻴﺲ اﻟﻌﻘﻞ
29
اﻷﺧيرة«
ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﺑين ﺣﻘﺎﺋﻖ أﺧﺮى؛ ﺑﻞ ارﺗﺒﺎط اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺤﻘﺎﺋﻖ أﺧﺮى. ﻓﻔﻲ ﻣﻌﻨﺎه اﻟﻌﺎم ﻳﺸير اﻟﻌﻘﻞ إﱃ
ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ واﳌﺘﻮاﺻﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻀﻤّﻦ ﺑﻬﺬا اﳌﻌﻨﻰ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻮﺣﻲ. ﻟﺬﻟﻚ، إن اﻻﺧﺘﻼف
ﺑين اﻟﻌﻘﻴﺪة واﻟﻌﻘﻞ ﻻ يمﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن إﻻ ﻧﺴﺒﻴﺎً. ﻳﻜﻤﻦ اﻻﺧﺘﻼف ﻗﺒﻞ ﻛﻞّ ﳾء ﰲ أن اﻟﻮﺣﻲ ﻻ ﻳﻘﺪّم
ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ بمﺎ ﻳﺘﻀﻤّﻨﻪ اﻟﻌﻘﻞ اﳌﺘﻨﺎﻫﻲ؛ أي اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬي ﻧﻔﻬﻤﻪ ﻫﺬه اﳌﺮة ﺑﺎﳌﻌﻨﻰ اﻟﺨﺎص؛ أي
ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ يمﻜﻦ ﻟﻠﻔﻜﺮ اﻟﺒﴩي إدراﻛﻬﺎ ﺑﻮﺳﺎﺋﻠﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ، دون ﺗﺪﺧﻞ ﻷيّ ﻧﻮر ﺧﺎرق
؛ ﺗﻠﻚ ﻫﻲ اﻟﻔﺠﻮة اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻋﺎﺟﺰﻳﻦ ﻋﻦ ﻓﻬﻢ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻘﻴﺪة واﻟﱪﻫﻨﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ. وإذا ﻛﺎن
30
ﻟﻠﻌﺎدة
اﻟﻌﻘﻞ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﺔ، ﻓﺈنّ اﻟﻌﻘﻴﺪة ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺟﻬﻠﻨﺎ ﻛﻴﻔﻴﺔ وﺟﻮد اﻷﴎار وأﺳﺒﺎﺑﻬﺎ، وﻫﻲ
أﴎار ﺗﺄﻣﺮﻧﺎ اﻟﻌﻘﻴﺪة ﺑﺎﻋﺘﻨﺎﻗﻬﺎ. إنّ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑين ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻘﻞ وﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻘﻴﺪة ﺗﻈﻬﺮ أﺧيراً ﻣﻦ ﺧﻼل
ﺧﺎﺻﻴّﺔ داﺧﻠﻴﺔ ﻣﺤﻀﺔ: ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻣﺼﺪرﻫﺎ وﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺤﺼﻴﻠﻬﺎ؛ ﻓﺈﻣّﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ وﻋﺎدﻳﺔ وإﻣﺎ
ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺧﺎرﻗﺔ ﻟﻠﻌﺎدة واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. وﻻ يمﻜﻦ ﻟﻬﺬه اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت أن ﺗﺆدي إﱃ إﻋﺎدة اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻣﻼءﻣﺘﻬما
اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ؛ أي ﰲ تمﺎﻫﻲ اﻟﺸﻜﻞ أو اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ: بمﻌﻨﻰ أﻧﻬﺎ، ﰲ اﻵن ﻧﻔﺴﻪ، وﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ، ﺣﻘﺎﺋﻖ.
ﻋﻘﺎﺋﺪ اﻟﺪﻳﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ إﱃ اﻟﺒﴩ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ اﻟﻜﺘﺎب اﳌﻘﺪس، وﻫﻲ ﻻ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﻫﺬه
ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﳌﺤﺪودة واﳌﺘﻨﺎﻫﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮّن ﻋﻘﻠﻨﺎ، ﻟﻜﻨّﻬﺎ ﻻ ﺗﺨﺮج ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻜﻮني )اﻟﺬي ﻻ
ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻣﻠﻜﺔ اﻟﻔﻬﻢ اﻹﻟﻬﻲ(. ﻟﺬﻟﻚ، اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﻘﻴﺪة ﻻ ﻳﻌﻮدان إﱃ ﻧﻈﺎﻣﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔين، وإﻻ
Gianluca Mori, op. cit., p. 40 .
- اﳌﺮﺟﻊ ﻧﻔﺴﻪ
26
.DC, § 65, p. 89 ...
- ﻻﻳﺒﻨﺘﺰ، ﰲ ﻣﻘﺎﻟﺔ تمﻬﻴﺪﻳﺔ
27
.p. 66 ,23 § .
- اﳌﺮﺟﻊ ﻧﻔﺴﻪ
28
Nouveaux Essais sur l’entendement humain، IV, chap. XVII, § 1-3, .
- ﻻﻳﺒﻨﺘﺰ، ﻣﻘﺎﻻت ﺟﺪﻳﺪة ﺣﻮل ﻣﻠﻜﺔ اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺒﴩي
29
.GF-Flammarion, p. 375
.DC, § 1 ،...
- ﻣﻘﺎﻟﺔ تمﻬﻴﺪﻳﺔ
30
ﺑﻘﻠﻢ: ﺑﻮل راﺗﻮ / ﺗﺮﺟﻤﺔ: اﻟﻄﺎﻫﺮ ﺑﻦ ﻗﻴﺰة